بقلم - جمعة بوكليب
ثمانية عشر شهراً مرَّت على الحرب الأوكرانية - الروسية، وما زال العالم يلتقط أنفاسه إزاءها، هل مِن نهاية لهذا اللهب المستعر؟ هل للبشرية أن تتنفس الصعداء وتمد أعناقها نحو التقدم والازدهار، وتنهي هذه الحرب المأساوية التي طالت لقمة عيش الشعوب وهدَّدت أمنها الغذائي؟
لا أحد بمقدوره التكهن بالمسار الذي ستأخذه، وأين ستنتهي؟ أمر توقفها سلمياً، عبر المفاوضات، ليس وارداً حتى الآن لدى الطرفين، رغم ما طُرِح من مبادرات من أطراف عديدة دولياً، بسبب رفض الدولتين المعنيتين تقديم أي تنازلات. الأمر نفسه يُقال عن الحسم العسكري، حيث تبيَّن عجز الطرفين، حتى الآن، عن إحراز انتصارات تؤدي إلى إنزال هزيمة نهائية بالطرف الآخر، حسبما أبانت مجريات المعارك الحربية، خلال الشهور الماضية. وتلاشى أمل أوكرانيا والغرب في قدرة الهجوم المعاكس الأوكراني، بعد تكبُّد القوات الأوكرانية خسائر فادحة في الأفراد والعتاد، وصمود الدفاعات الروسية الحصينة. واحتمال فشله في تحقيق أهدافه المرجوة منه، كان، استناداً لتقارير إعلامية غربية، مدعاة لخلاف بين كييف واشنطن، حيث ترى الأخيرة أن اقتراب فصل الشتاء، من دون إحراز اختراقات في الدفاعات الروسية، يعني احتمال فشله.
في الأسبوع الماضي، أعلنت الدنمارك وهولندا أنهما حصلتا على موافقة الإدارة الأميركية على إرسال طائرات «إف - 16» إلى كييف. التقديرات العسكرية تؤكد أن سلاح الجو الروسي أكبر بنحو عشرة أضعاف من نظيره الأوكراني، وأن الطائرات المقاتلة الموعودة لن تشارك في الحرب إلا بعد إنهاء الطيارين الأوكرانيين فترة التدريب اللازمة، التي تُقدَّر بعام تقريباً. وتطوع 11 بلداً للقيام بمهام تدريب الطيارين الأوكرانيين، مما يعني أن أمر دخول الطائرات المقاتلة مسرح العمليات العسكرية ما زال بعيداً زمنياً، ولن يؤثر على مجرى المعارك حالياً.
الحربُ التي بدأت فجأة وسريعاً، تبدو وكأنها في طريقها إلى التحول مؤخراً إلى حرب استنزاف. وحروب الاستنزاف بطبيعتها يتحمل أعباءها المرهِقة المدنيون، مما يؤدي إلى تزايد أرقام الضحايا بينهم. الإحصاءات الرسمية الأوكرانية تؤكد مقتل 10 آلاف مدني تقريباً، منذ بدء الحرب في شهر فبراير (شباط) 2022.500 منهم من الأطفال. وبلغ عدد الجرحى 16 ألفاً تقريباً. في حين بلغ عدد المباني السكنية المدمَّرة 120 ألفاً. ومساعي السلام، حتى الآن، وصلت إلى طريق مسدودة نتيجة تعنُّت الطرفين، ورفضهما تقديم تنازلات. ومن جهة أخرى، بدأت تعلو أصوات في عواصم الغرب تطالب صراحة بتخلي كييف عن الأراضي التي خسرتها في الحرب لروسيا. آخرها كان في الأسبوع الماضي، حين نشرت وسائل الإعلام الغربية تصريحاً لرئيس ديوان السكرتير العام لحلف الناتو السيد ستين جنسن، أدلى به خلال نقاش في مؤتمر عُقِد بالنرويج، وطالب فيه حكومة كييف بالتخلي عن الأراضي التي احتلتها روسيا، مقابل حصولها على عضوية حلف «الناتو». السيد جنسن اعتذر فيما بعد على التصريح، لما أثاره من ردود أفعال غاضبة في كييف وفي دوائر الحلف، مبرراً تصريحه بأنه كان جزءاً من نقاش. وقبل ذلك بأيام قليلة، أدلى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي بتصريح مماثل. وهو يرى أن التنازل الأوكراني لروسيا عن الأراضي المحتلة ضروري إذا أُريد وضع نهاية للحرب.
التقارير الإعلامية الغربية تتحدث عن مباحثات غير رسمية بين موسكو وواشنطن لإنهاء الحرب. وتتفق جميعها على أن موسكو لا تفضل الدخول في مفاوضات تقود إلى تسليمها ما احتلته من أراض. وقامت مؤخراً بمضاعفة ميزانيتها العسكرية لعام 2023، ووسعت من حملات تجنيد الشباب للقتال. ومن جهة أخرى، يرى معلقون غربيون أنه من غير الممكن قبول موسكو بشروط حكومة كييف لوقف الحرب، كونها تراها تسليماً غير مشروط. ويقولون إنه رغم أن موسكو لم تتعرض لاحتلال أراضيها من قبل قوات أجنبية، وليس مطلوباً منها نزع السلاح، أو التخلي عن جزء من أراضيها، فإن استعادة أوكرانيا لكل الأراضي التي فقدتها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، يُعدّ غير مقبول لموسكو، بل غير مسموح به. المعلقون الغربيون يرون أن الحرب التي بدأتها موسكو، بزعم أن أوكرانيا أرض روسية، تحولت حالياً إلى حرب من أجل البقاء. ليس بقاء الرئيس بوتين، بل بقاء روسيا.
التحول الذي أحدثته الحرب في الموقف الروسي، في آراء المعلقين، هو استعدادها للقبول باحتمال أن تصبح أوكرانيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وربما من حلف الناتو. وهذا في حد ذاته تنازل مهمّ من جانبها. ولذات السبب، ولكي تضمن حماية نفسها مستقبلاً، عليها أن تحافظ على ما احتلته من أراضٍ أوكرانية. عندها يمكن أن نقول إن العالم في طريقه إلى الاستقرار.