بقلم - جمعة بوكليب
مهما عشنا من أعوام مديدة، ومهما اكتسبنا في الحياة الدنيا من معرفة وخبرات وتجارب، فإننا نظل قاصرين، في أحايين كثيرة، عن استيعاب ما يطرأ من حوادث؛ ذلك أن الحياة الدنيا، كانت وما زالت وستظل، قادرة على إدهاشنا بغرائبها، وفقاً لما يؤكده مثل شعبي مصري قديم يقول: «يموت المعلم ولسه بيتعلم».
في الأيام القليلة الماضية قرأت خبراً عجيباً في صحيفة بريطانية، أدهشني من شدة غرابته، وربما لا معقوليته إن صحَّ الوصف. ومفاده أن فريق المستشارين والخبراء الذين يقودون الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري للرئاسة لعام 2024 السيد دونالد ترمب، وبغرض توفير الأموال لدفع تكاليف القضايا القانونية التي يتعرض لها، ظهروا بفكرة لا تخطر على البال لتحقيق تلك الغاية.
الفكرة مثيرة حقاً للاهتمام، وتدل على عبقرية أصحابها. وتقوم على تقطيع البدلة التي كان يرتديها السيد ترمب، لدى ظهوره أول مرة، في يوم اعتقاله في مدينة نيويورك، بتهمة التربح غير القانوني، في أحد مراكز الشرطة القضائية بالمدينة. والتقطت له صورة بها، كما هي العادة المتبعة مع المتهمين لدى اعتقالهم. وبدا هو في تلك الصورة، بوجه ذي ملامح مكفهرة وغاضبة، وقامت وسائل الإعلام بنشرها في اليوم التالي. تلك البدلة، التي دخلت التاريخ، اقترح فريق السيد ترمب أن بإمكان أنصاره الحصول على قطعة منها، واقتناء قطعة من التاريخ!
الأمر ليس صعباً؛ فالبدلة المعنية التي صارت تاريخية، بقدرة المستشارين والخبراء، ستقطع إلى قطع صغيرة متساوية، وتمنح تلك القطع لكل من يتقدمون بطلبات للحصول عليها مجاناً. لكن، قبل ذلك، يتوجب على كل واحد منهم شراء مجموعة صور للرئيس يبلغ عددها 47 صورة، يظهر فيها السيد ترمب في هيئات مختلفة. وعلى سبيل المثال يظهر في إحداها بهيئة راعي بقر (كاوبوي)، وفي أخرى مرتدياً بدلة جندي أميركي... إلخ. ثمن كل واحدة من تلك الصور 100 دولار أميركي لا غير؛ أي أن الحصول على قطعة قماشية من بدلة الرئيس، أو بالأحرى، على قطعة من التاريخ، تكلف 4700 دولار أميركي، كل دولار ينطح دولار، والحاضر يعلم الغائب.
التاريخ ليس رخيصاً، وهذه حقيقة وبديهة لا تقبل نقاشاً. ومن يود امتلاك قطعة منه فعليه أن يضع يده في جيبه، ولا يتوقع، حتى في أفضل أحلامه، الحصول عليها مجاناً. والبدلة المعنية للرئيس السابق ترمب ليست رخيصة، حتى قبل أن تدخل التاريخ، فما بالك وقد دخلت التاريخ من أضيق أبوابه: اتهامه بالتربح من عقاراته، بتقييمها بأسعار مضاعفة عن أسعارها في سوق العقارات؟ علماً بأن الرئيس السابق ترمب فاحش الثراء، لكنه رجل متواضع لا يرى مانعاً من قيام أنصاره ومؤيديه بدفع تكاليف فريق المحامين المكلفين الدفاع عنه، وهذه من حنكة الرئيس!
ما قام به فريق الحملة الانتخابية الترمبية يعيدنا قروناً إلى الوراء، وتحديداً إلى مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، حين كانت الكنيسة في روما، من أجل ملء خزائنها بالأموال لتمويل مشاريعها العسكرية، تبيع صكوك غفران تضمن لمن يقتنيها، ويدفع ثمنها نقداً، مكاناً في جنّة موعودة. الأمر لم يقتصر على تلك الحيلة، بل امتد إلى ما هو أسوأ؛ إذ تفتق ذكاء القساوسة عن أفكار أكثر لجلب المال، أكثرها شهرة تمثل في فكرة بيع قطع خشب صغيرة، بادعاء أنها قطع أصلية، مأخوذة من خشب الصليب الذي صُلب عليه المسيح عليه السلام. راجت تلك الحيلة، وشاعت وقتذاك، حتى أن المصلح الديني جون كالفين، مؤسس الكالفينية، قال مرة ساخراً إن بإمكان المرء أن يصنع سفينة كاملة من تلك الأعواد الصغيرة المبيعة!
فريق المرشح الجمهوري ترمب، كما يبدو، تذكر تلك اللعبة الكنسية القديمة، ونفض عنها الغبار، وبدلاً من أعواد الصليب، جاء بفكرة تقطيع بدلة الرئيس السابق إلى قطع صغيرة، وعرضها للجمهور. وبالتأكيد، فإن قطع البدلة المعروضة من المحتمل جداً أن تصبح مثل أعواد ذلك الصليب الخشبي المذكور أعلاه؛ أي أنها ستتوالد وتتكاثر إلى ما لا نهاية. وباختصار شديد، فإن المرشح دونالد ترمب لن يُضطر إلى دفع سنت واحد من جيبه لفريق المحامين المكلفين الدفاع عنه أمام المحاكم! وكل ذلك يحدث علناً أمام أعين القانون، ووفق نصوصه وبنوده.
ولكن نقول إن الرئيس السابق ربما اضطُر إلى ذلك، لأن ثروته ليست مجرد أموال متاحة، فأغلبها أصول وليست أموالاً سائلة يستطيع سحبها أنى شاء.