بقلم - جمعة بوكليب
النتائج الانتخابية البرلمانية في إسبانيا، يوم الأحد الماضي، أراحت بروكسل مؤقتاً من كابوس سببه خشيتها من وصول حزب يميني متطرف ومعادٍ لها، (حزب فوكس)، إلى السلطة في مدريد، في ائتلاف حكومي مع حزب يمين الوسط، الحزب الشعبي. النتائج النهائية جعلت المسؤولين في الاتحاد الأوروبي يلتقطون أنفاسهم. وفي الوقت ذاته، منحت أنصار الليبرالية في أوروبا الأمل بخسارة اليمين المتطرف الإسباني في الانتخابات الأوروبية المقبلة، المقرر عقدها في العام المقبل. لكن المحاذير ما زالت قائمة. والخشية من وجود فراغ في السلطة في إسبانيا قد يسبب مشاكل في تنفيذ بعض أجندة بروكسل في أوروبا.
قبل الانتخابات، كانت التكهنات تميل بقوة لصالح سقوط إسبانيا في قبضة اليمين بقيادة الحزب الشعبي، كما حدث في إيطاليا وإسبانيا والسويد وفنلندا والنمسا واليونان. الفشل في الانتخابات المحلية والمناطقية في شهر مايو (أيار) الماضي، والهزيمة التي لحقت بالحزب الاشتراكي بقيادة بيدرو سانشيز وشركائه في الائتلاف الحاكم، ساهمت إلى حد كبير في ترجيح كفة تلك التكهنات. إلا أن مقامرة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز بإجراء انتخابات خاطفة في شهر يوليو (تموز) الحالي، بدلاً من شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، كما كان مقرراً، فاجأت الأحزاب اليمينية وأربكتها. تكتيك سانشيز أتى أُكُله. وحصل الاشتراكيون على نسبة 31.7 في المائة من الأصوات، وهي أفضل نتيجة انتخابية حققوها منذ عام 2008. هذه الانتخابات النيابية الخامسة التي يدخلها السيد سانشيز، خلال السنوات الثماني الأخيرة، أي منذ توليه للمرّة الأولى قيادة الاشتراكيين في عام 2014.
جاء الحزب الشعبي المحافظ في المرتبة الأولى، بزيادة مقاعده البرلمانية من عدد 89 إلى 136 مقعداً من مجموع 350. وجاء الاشتراكيون في المرتبة الثانية بعدد 122 مقعداً، أي بزيادة مقعدين. وبالتالي أخفق الحزبان الرئيسان في حصول أي منهما على الأغلبية اللازمة (176 مقعداً) لتشكيل حكومة. لكن كفة الاشتراكيين ترجح قليلاً، في احتمال تشكيلهم لحكومة جديدة مع حلفائهم من الأحزاب الانفصالية في الباسك وكتالونيا، ومع الأحزاب اليسارية الصغيرة، في حالة تمكن رئيس الحكومة سانشيز من إقناعهم بالمشاركة مجدداً في الحكم. وإقناع زعيم حزب «جونتيس» السيد كارل بوتشديموند، الهارب من العدالة الإسبانية منذ عام 2017، والمقيم في بلجيكا، بحجب صوته في تصويت التنصيب.
وتجدر الإشارة إلى أن صعود اليمين المتطرف، وتحديداً حزب «فوكس»، كان نتيجة مباشرة لتمرد قادة الانفصاليين في كتالونيا عام 2017، وقرارهم بإجراء استفتاء حول حق تقرير المصير من دون موافقة الحكومة، وما أدى إليه من تدهور في الأوضاع السياسية، وانتهى بهروب بعض قادة الانفصال إلى فرنسا وبلجيكا، وسجن البعض الآخر. في انتخابات عام 2019، معتلياً موجة السخط الشعبي ضد التمرد، حقق حزب «فوكس» انتصاراً انتخابياً بحصوله على عدد 52 مقعداً، ما جعله ثالث أكبر قوة سياسية تحت قبة البرلمان. السيد بتشديموند قائد التمرد فرّ إلى بلجيكا وما زال هناك. وفي يوم الاثنين الماضي، أي اليوم التالي للانتخابات، جدد النائب العام الإسباني أمر القبض عليه. وتلك معضلة للسيد سانشيز تزيد في تعقيد مشكلة تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، الأمر الذي يرجح أن عقد انتخابات أخرى قبل نهاية العام، أو في أول العام الجديد، أكثر احتمالاً.
من المعروف أن الحزبين الرئيسين في إسبانيا (المحافظون والاشتراكيون) لم يسبق لهما من قبل تشكيل ائتلاف بحكومة وحدة وطنية. كلاهما حكم إسبانيا في السابق لوحده، من دون حاجة لتشكيل ائتلاف، إلا بعد الهزّة الاقتصادية والمالية العالمية في عام 2008. الآن، وبعد خسارة حزب «فوكس» اليميني المتطرف لنحو ثلث مقاعده البرلمانية، جعل من الصعوبة بمكان على زعيم الحزب الشعبي المحافظ البرتو فيخو، تشكيل حكومة ائتلافية.
زعيم حزب «فوكس» اليميني ألقى باللائمة على ألبرتو فيخو زعيم الحزب الشعبي؛ لأنه خلال الحملة الانتخابية دعا الناخبين من أنصار اليمين منحه أصواتهم لكي يتمكن من الحصول على أغلبية تتيح له الحكم منفرداً، ومن دون حاجة إلى الدخول في ائتلاف مع حزب متطرف. حزب «فوكس» ما زال، حتى بعد الهزيمة، ثالث أكبر حزب تحت قبة البرلمان، وبعدد 33 مقعداً. وخسارته الانتخابية أصابت الأحزاب اليمينية المتشددة في عواصم أوروبا بخيبة شديدة. وخاصة في إيطاليا. زعيمة حزب إخوة إيطاليا ورئيسة الائتلاف الحاكم السيدة جورجيا ميلوني، أعلنت عن دعمها الصريح لحزب «فوكس»، وبثت رسالة مسجلة خلال الحملة الانتخابية، تدعو الناخبين الإسبان إلى دعم الوطنيين، وتقصد بذلك حزب «فوكس».
الانتخابات النيابية الأخيرة، كانت مقامرة قام بها رئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز، اعتبرها البعض انتحاراً سياسياً، إلا أنه تمكن بها من قلب الطاولة على خصومه في حزب الشعب اليميني وحلفائه من أحزاب اليمين. الآن، رغم الغيوم المعلقة في الأجواء، بسبب الصعوبة التي تكتنف تشكيل حكومة جديدة، وإمكانية اللجوء إلى عقد انتخابات أخرى، فإن نجاح تكتيك سانشيز رفع عن كاهل بروكسل مؤقتاً حملاً ثقيلاً، خاصة أن إسبانيا تترأس حالياً الاتحاد الأوروبي.