بقلم -جمعة بوكليب
ما لا يستطيع إنكاره أنصار «بريكست» في بريطانيا، هو أن «بريكست» كان وراء الأزمة السياسية الحالية، التي يمر بها إقليم شمال آيرلندا، منذ شهر يناير (كانون الثاني) 2022، نتيجة استمرار «الحزب الاتحادي الديمقراطي (Democratic Unionist Party-DUP)» في رفض المشاركة في الحكومة المحلية، ما لم يحظَ الإقليم، من قبل بروكسل، بمعاملة مساوية لبقية الأقاليم البريطانية.
الذكرى الخامسة والعشرون يوم 10 أبريل (نيسان) الجاري، لتوقيع اتفاقية السلام بين أطراف النزاع في الإقليم عام 1998 حلّت هذه الأيام، والحياة السياسية في الإقليم في حالة تجمّد. فلا الحكومة الجديدة باشرت مهامها، ولا البرلمان الجديد انتخب رئيساً جديداً وباشر عقد جلساته. والأسوأ، استناداً إلى معلقين سياسيين، أن قضايا خلافية عديدة كان يُظنُّ أنها اختفت من المشهد، عادت إلى الظهور مؤخراً وبقوة، مثل الحدود، الهُوّية، المواطنة، وحق تقرير المصير.
قادةُ الحزب الاتحاد الديمقراطي ما زالوا يصرّون على عدم العودة للمشاركة في الحكومة المحلية، لعدم رضاهم حتى عن التعديلات التي أُجريت مؤخراً، بين لندن وبروكسل، على بروتوكول شمال آيرلندا، في اتفاق جديد أُطلق عليه اسم «إطار ويندسور»، ويطالبون الحكومة البريطانية بتحقيق مزيد من التنازلات من بروكسل. ومن الواضح، يقول المعلقون، إن القيادات الاتحادية، تبحث عن أعذار، لأنها تجد صعوبة في المشاركة في حكومة يقودها حزب «شين فين» الكاثوليكي الجمهوري، على اعتبار أنه كان الأكثر فوزاً بالأصوات والمقاعد البرلمانية في الانتخابات الأخيرة.
اتفاق السلام عام 1998 نجح، إلى حدّ كبير، في إيقاف نزيف الدم، إلا أنه فشل في لأم جرح الكراهية، أو ترسيخ مصالحة حقيقية بين الملكيين من الطائفة البروتستانتية والجمهوريين من الطائفة الكاثوليكية. والدليل أن الأسوار الفاصلة ازدادت عدداً، ليس على الأرض فقط، بل وفي القلوب.
وفي يوم 28 مارس (آذار) الماضي، أعلنت الجهات الأمنية، جهاز «إم آي 5»، رفع درجة التهديد الأمني في الإقليم، من اللون «الأصفر» إلى «الأحمر»، علامة الخطر، بعد محاولة اغتيال رجل شرطة. أحد المعلقين البريطانيين، وصف شمال آيرلندا بـ«أرض الابتسامات الجاهزة والأحقاد القديمة».
من المهم الإشارة إلى أنه بعد أربعة أشهر فقط على توقيع اتفاق السلام عام 1998، قامت إحدى المجموعات المسلحة بتفجير سيارة في مدينة أوماه، على بعد 60 ميلاً، غرب العاصمة بلفاست، أدّى إلى مقتل 29 مواطناً من الكاثوليك والبروتستانت، وجرح المئات.
توقف الحكومة المحلية حالياً عن مباشرة مهامها بسبب انسحاب الاتحاديين منها ورفضهم المشاركة في حكومة جديدة، ليس جديداً، وحدث عدة مرّات سابقاً، أشهرها توقف دام لمدة خمس سنوات (2002 - 2007). مع ملاحظة أن الانسحاب يأتي من الطرفين، وليس حكراً على طرف دون آخر.
ومن دون شك، فإن «بريكست» سبب الأزمة الحالية في الإقليم. واللافت للاهتمام، أن «الحزب الاتحادي الديمقراطي»، على عكس أغلبية سكان الإقليم الداعمين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، كان من أهم المناصرين والداعمين، سياسياً ومالياً، لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بل ومنح قادة الحزب موافقتهم لرئيس الحكومة الأسبق بوريس جونسون، خلال زيارته للإقليم، على التوقيع على اتفاق الخروج، بعد أن وعدهم بأن وضعية الإقليم ستبقى على ما كانت عليه قبل الاتفاق، وصدقوه.
لكن «بريكست» وُجد ليبقى، وباتفاق الأحزاب البريطانية جميعها. والمعضلة الحالية في قبول الاتحاديين هذه الحقيقة. فهم، في شمال آيرلندا، على اختلافهم، يعرفون أن العودة بالإقليم إلى وضعية ما قبل «بريكست»، لم تعد ممكنة، خصوصاً بعد التعديلات لبروتوكول شمال آيرلندا، التي نجح، مؤخراً، رئيس الحكومة الحالي ريشي سوناك في تحقيقها، ونجاحه في إعادة ترميم ما تصدع في جسور العلاقات بين لندن وبروكسل. وأنّه ليس أمامهم سوى القبول بالدعوات المطالبة بالعودة إلى المشاركة في الحكومة المحلية والبرلمان. وفي حالة استمرار رفضهم، فإن البديل هو العودة إلى الحكم المركزي من لندن. لكن تلك العودة، لو حدثت، فإنها تحمل في طياتها خطر العودة إلى أيام ما قبل اتفاق السلام عام 1998.
السؤال الآن: هل حقق الاتفاق الغاية المقصودة منه؟ وهل وجدت المصالحة إلى القلوب سبيلاً؟ الجواب بالنفي. فالانقسام ما زال مترسخاً: الأحياء منقسمة؛ بروتستانتية وكاثوليكية، وكذلك المدارس، والصحف، والأحزاب السياسية، والتصويت الانتخابي. والسبب؛ لأن السياسيين جعلوا من توقيع اتفاق السلام غاية في حد ذاته، وخط وصول نهائي، وليس نقطة بداية نحو تغيير حقيقي في الإقليم، بهدف العمل على ترسيخ وتوطيد جذور المصالحة.