بقلم - داود الفرحان
قبل أن يبدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه الحالية على أوكرانيا، لجأ إلى تحسين ظروف الجيش الروسي بأسلحة أحدث ومعدات أدق وتدريب أفضل، والأهم من ذلك رواتب أعلى.
بعد أيام من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا تداول الخبراء العسكريون والسياسيون سيناريوهات مختلفة لحاضر هذه الحرب ومستقبلها، أهمها إيصال رسالة للغرب بأن العالم لن يُدار بعد اليوم من قطب سياسي واحد، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
كان الخطأ الأول في خطة بوتين، كما قال عسكريون محترفون في ألمانيا، أن روسيا كانت تأمل أن ترغم الضربات الجوية والصاروخية والاستعراضية الحكومة الأوكرانية على الاستسلام خلال فترة زمنية قصيرة. وهنا ثبت خطأ هذا السيناريو؛ فأوكرانيا صمدت ولم تستسلم؛ ولذلك اضطر بوتين إلى اللجوء إلى السيناريو الثاني، وهو معركة برية صعبة جداً قد تطول إلى فترة غير محددة من نوع حروب «الاستنزاف». لكن سيناريو جغرافية البرّ لم يخدم الجيش الروسي سواء في الطرق أو الدفاعات الأرضية في أوكرانيا المختلفة تماماً عن الجغرافية الروسية التي تَدَرب عليها الجنود الروس. وفهم الجنرالات الروس أن أمامهم أسابيع أو أشهراً صعبة. وقال المحلل العسكري لمجلة «دير شبيغل» الألمانية ويليام البيركي «إن مستقبل العملية العسكرية الخاصة الروسية مجهول سواء على المدى القريب أو البعيد». وهذا ما حدث، وهذا أيضاً ما جعل الرئيس الروسي يعيد النظر في خياراته العسكرية والتمركزات الحالية للقوات الروسية، وتحول «النصر الخاطف» كما تمنت القيادة الروسية إلى حرب على الطريقة الأفغانية التي يدرك الروس صعوباتها.
ويرى أكثر الخبراء العسكريين تفاؤلاً، أن سيناريو غزو العاصمة الأوكرانية كييف هو «كابوس مطلق» بالنسبة للاستراتيجيين الروس «ولا يوجد جندي واحد يريد القتال في بيئة حضرية عصرية، إلا إذا حدث أمر يرغم الرئيس الأوكراني زيلينسكي على الاستسلام من دون قتال أو احتكاك بين القوات».
للرئيس الروسي بوتين كما هو معروف خبرة في أربع حروب، آخرها الحرب الأوكرانية. أما الحروب السابقة، فهي حرب الشيشان (1994 و1999) التي أسفرت عن مقتل عشرات الألوف من الجنود الروس والشيشانيين، وحرب جورجيا الخاطفة (2008)، والحرب في سوريا (2015) إنقاذاً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد من الانهيار. وتوسع التدخل الروسي في سوريا إلى حد بناء قاعدتين جويتين بريتين وجويتين بحريتين على سواحل البحر الأبيض المتوسط. واستطاعت القوات الروسية فعلاً أن تدعم «انتصارات» النظام السوري في الحرب الأهلية عبر انتشار أكثر من ستين ألف جندي روسي كانت حجتهم في الحرب هي محاربة تنظيم «داعش» على الرغم من أن هذا التنظيم الإرهابي لا علاقة له بروسيا.
ويقول غريغوري لوكيانوف، الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية «من دون هذا التدخل، وهو أطول تدخل عسكري في تاريخ روسيا، لما كان النظام السوري موجوداً ولا الرئيس بشار الأسد على سدة الحكم».
والحرب الأوكرانية الحالية ليست الأولى التي تنغمس فيها روسيا، ففي عام 2014 أعلنت موسكو ضمّ شبه جزيرة القرم، وساندت انفصالاً موالياً لروسيا شرق أوكرانيا.
أما الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فهو قليل الخبرة في هذا المجال، ولا يملك سوى وعود بالانتصار ومطالبات موجهة إلى الغرب لدعمه بأسلحة متطورة، ورسائل عبر وسائل الاتصال الاجتماعي تبدي «استعداد أوكرانيا لأي شيء... وستنتصر». لكن الذي يحسب لصالح زيلينسكي، أنه صمد وقاوم ودافع عن شعبه وبلده في حرب غير متكافئة لا في العدّة ولا في العديد، وللتذكير فإن الجنود الأوكرانيين الذين شاركوا في حرب احتلال العراق في عام 2003، أي قبل تولي زيلينسكي الرئاسة، مارسوا أبشع صنوف التنكيل والتعذيب ضد الشعب العراقي والمعتقلين العُزّل، تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأميركية.
يرى الباحث الأميركي مارك إبيسكوبوس في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، أن بوتين كان منذ عام 2014 يعتقد أن اجتياح أوكرانيا «ليس مسألة ضمّ مساحات من الأراضي، لكنه استعادة لحدود روسيا التاريخية المشروعة». وهذا يعني أن بوتين لا يفكر في إعادة أي من الأراضي الأوكرانية التي يحتلها الجيش الروسي الآن، ولا يهتم الرئيس الروسي إذا كان الغرب يعترف أم لا بأن خيرسون وميليتوبول وماريوبول وأي عدد آخر من الاستحواذات العسكرية في أوكرانيا أراض روسية. وربما يزحف هذا المعنى إلى فنلندا ودول البلطيق ومساحات كبيرة من بولندا! إنها وصفة لسنوات مقبلة من الحرب! وإذا وضعنا أمامنا تاريخ الإمبراطورية الروسية القديمة فسنجد أنها تشمل، بالإضافة إلى أوكرانيا بيلاروسيا، ومولدوفا، وفنلندا، وأرمينيا، وجورجيا، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وليتوانيا، وإستونيا ولاتفيا ومدناً في تركيا!
حين أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس بوتين في بداية يوليو (تموز) الحالي بالسيطرة على منطقة لوغانسك الموالية لروسيا قال بوتين لقواته «استريحوا»!
ولا بد أن موسكو وضعت أمامها خيارات أخرى إذا انقلبت الموازين، واقتربت الأوضاع من قيام حرب عالمية ثالثة، ومواجهات مباشرة بين الغرب والشرق، وربما يدرك الكرملين أن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وساعتها لن يتردد بوتين في دخول مفاوضات سياسية مباشرة مع أوكرانيا، وليس مع الغرب، لإعادة رسم بعض الخرائط وتأمين حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، مقابل مساهمة روسيا في إعادة إعمار أوكرانيا. يفاخر بوتين بأن الإمبراطور الفرنسي نابليون ظل واقفاً على أعتاب موسكو في حملته الشهيرة عام 1812.
لا نريد أن تخسر روسيا الحرب ولا السلام، فهي دولة كانت لعقود طويلة صديقة للعرب تحت تسمية «الاتحاد السوفياتي» وارتبطت مع مصر وسوريا والعراق واليمن، وربما الجزائر والسودان أيضاً، بمعاهدات صداقة وتعاون وثيقة رغم الخلافات الآيديولوجية. وإذا نسي بعضنا رئيس الوزراء السوفياتي اللامع نيكيتا خروتشوف، فإن المثقفين العرب لا يمكن أن ينسوا عباقرة الأدباء الروس تولستوي، ودوستويفسكي، وغوركي، وتشيخوف، وباسترناك وبوشكين وعشرات غيرهم. وإذا نسينا أسماء هؤلاء الأدباء اللامعين فمن ينسى روايات «الجريمة والعقاب» و«الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» و«الإخوة كارامازوف» و«الأم» و«الدكتور زيفاجو» و«الآباء والبنون»؟
كانت لدينا في بغداد في القرن الماضي أكثر من دار للسينما متخصصة في عرض الأفلام السينمائية الروسية الحربية، وكذلك في دمشق والقاهرة. ومن يدري ربما سنشاهد في سنوات مقبلة فيلماً روسياً عن الحرب الأوكرانية.