بقلم - داود الفرحان
الميليشيات في بعض دول العالم ليست جيوشاً سرية تتوارى خلف شعارات وتجمعات وعصابات، فهي معروفة ولديها مكاتب وقيادات وعناوين، وأحياناً تجري انتخابات لتجديد «الثقة» بزعمائها، إلا أن أكثرها يقودها زعيم واحد، ثم أولاده من المهد إلى اللحد، مثل عصابات أميركا اللاتينية وأفريقيا التي يسود العنف فيها تحت شعارات اقتصادية أولاً، ثم سياسية ثانياً، ثم قبائلية ثالثاً.
في العالم العربي الراهن يعتبر العراق وسوريا ولبنان واليمن أهم الأنظمة التي تشكلت فيها ميليشيات وترعرعت واستقوت بدعم خارجي من «فيلق القدس» الإيراني، وهي تقوم على أسس العصابات المسلحة التي كانت معروفة في الولايات المتحدة طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والمعروفة بأسماء «المافيا» و«الكاوبوي»، وكذلك في الدول الأوروبية خلال القرون الوسطى. ومعظم هذه الميليشيات المنفلتة تدين بالولاء للمرشد الإيراني الحالي خامنئي. وبعضها يمتلك معظم ركائز الجيش النظامي، من معسكرات معروفة المواقع وأسلحة وسيارات ومدفعية وطائرات مُسيَّرة وصواريخ، ولا تعوزها إلا القاذفات الجوية وطائرات الهليكوبتر. وكلها تمتلك سجوناً ومعتقلات خارج سياق الدولة، وهي تنظم استعراضات لقواتها في الشوارع الرئيسية في بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق. وأكثر من ذلك لها ممثلون في مجالس النواب، ووزراء في الحكومات، وأرصفة موانٍ خاصة لتهريب النفط والمخدرات، سواء في العراق واليمن وسوريا ولبنان. كما تفرض على المستوردين أو المصدرين نسبة من الأرباح والعمولات لقاء السماح بدخول أو خروج البضائع التجارية، مثل السيارات والمواد الغذائية. ويتولى العراق تمويل كل الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا و«حزب الله» في لبنان تحت واجهة إيران، في الوقت الذي يعاني العراقيون فيه من سوء المعيشة والفقر والبطالة والفساد.
ما زال العراقيون ينتظرون من الحكومة العراقية الحالية ما وعدت به من أي إنجاز، وظلت الميليشيات دولة قوية داخل دولة رخوة. وتلاشت كل آمال العراقيين الذين صدَّقوا وعود المسؤولين بمكافحة الفساد الحكومي والتصدي لانفلات السلاح ومحاكمة قتلة «شباب تشرين»، بل وحتى عن محاولة اغتيال رئيس الوزراء نفسه على أيدي الميليشيات ما زلنا لم نعرف عنها شيئاً، أسوة بكم هائل من جرائم الاغتيالات التي طالت المعارضين الشيعة قبل السنة.
لقد مضى على إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة أكثر من 7 أشهر، وما زالت الحكومة مشلولة بتصريف الأعمال فقط، ومجلس النواب عاجز عن انتخاب رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية، بسبب الانشقاقات العنصرية والطائفية والميليشياوية. والشارع العراقي مغلق بسبب السلاح العشوائي. وطلع علينا قبل أيام أحد زعماء الميليشيات قائلاً: «لن يتم أي تغيير ما دامت أصابعنا على الزناد». وهذه هي الحقيقة، وهو لم يبالغ في هذا التهديد الذي يستحق أن يحاكَم عليه بتهمة التلويح باستخدام السلاح في العملية السياسية الفاشلة منذ 2003 إلى 2022، بسبب الضغط الإيراني والأحزاب الموالية للمرشد خامنئي.
لقد هزَّت جريمة مسلح أميركي في تكساس الأسبوع الماضي، وقُتل فيها 21 طفلاً، الولايات المتحدة والحكومة والكونغرس والشعب الأميركي. وهي نوع من الجرائم التي تكررت كثيراً في المدارس هناك، وسط انقسام مجتمعي وأخلاقي بين المعارضين لانتشار الأسلحة في البلاد، والمتمسكين بما سمّوه «حرية السلاح». الأميركيون يعرفون أن السلاح المشاع المنفلت لدى المواطنين سبب من أسباب العنف والمجازر التي يرتكبها بعضهم، بسبب خلاف بسيط أو توتر مجنون أو حتى لعب أطفال.
وفي بلد المتناقضات الأميركية ليس غريباً أن هناك منظمة اسمها: «الجمعية الوطنية للبنادق»، وهي تبرعت خلال حملات الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة بعشرات ملايين الدولارات للرئيس السابق ترمب. وفي الوقت الحالي، ومع هذه المجزرة، عقدت جمعية «لوبي الأسلحة الأميركية» اجتماعها السنوي بحضور آلاف من مؤيدي حمل السلاح.
ومثل هذه الجمعيات والتشكيلات، انتشرت في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة مجموعات مسلحة تحمل معتقدات سياسية، من بينها «الميليشيا السوداء»، وهي خاصة بالأميركيين الأفارقة، يتزعمها ضابط سابق في الجيش الأميركي لمواجهة عنف الشرطة ضد المواطنين ذوي البشرة السوداء. وهو أمر يشبه ميليشيا أخرى للأميركيين البيض الذين يعتنقون سياسات عرقية ويمينية متطرفة، وتحمل اسم «حركة بوغالو»، وتأسست في عام 2012، وبدأت شهرتها في 2019 بالضد من مظاهرات سوداء مناهضة للشرطة. وهناك تنظيم آخر تحت تسمية «حفظة القسم» وعدد أعضائه 35 ألف شخص، شعارهم «حماية الدستور الأميركي» بكل السبل السلمية والمسلحة، وهو تنظيم يميني متطرف أيضاً.
ثم ظهرت حركة «الثلاثة في المائة»، وهي ميليشيا يمينية أخرى شبه عسكرية، تدافع، ليس عن الدستور، وإنما عن حقوق امتلاك الأسلحة، ومقاومة تدخل الحكومة الفيدرالية في الشؤون المحلية. ويعني اسمها أن هناك ثلاثة في المائة فقط من الأميركيين يحملون السلاح دفاعاً عن النظام. وطبعاً هذه الجمعيات والمنظمات والحركات مصدر رعب وقلق في المجتمع والشارع. ومن الشبكات الميليشياوية المسلحة أيضاً واحدة اسمها «أتوموافين» مشكَّلة من النازيين الجدد، وهي ناشطة في الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوروبية. إلا أن أشهر كل تلك الحركات المتطرفة، وأخطرها، وأقدمها، هي «منظمة كوكلوكس كلان»، وهي تشكلت في القرن الثامن عشر الميلادي، وعدد منتسبيها يتراوح بين ثلاثة وستة ملايين شخص أو أكثر يحمل أغلبهم الأسلحة، ولا يترددون في اغتيال أي شخص ضد العرق الأبيض المسيحي.
ولذلك، فإن الولايات المتحدة تشجع انتشار الميليشيات في العراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان ويوغوسلافيا بعد تقسيمها. ويلاحظ أن هناك ازدواجية في السياسة الأميركية تجاه الميليشيات؛ فهي تشجعها من جهة المصالح الأميركية الاستراتيجية، وضدها إذا كانت تخدم إيران كما في «الحشد الشعبي» في العراق، والحركات المسلحة في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، و«الحوثيين» في اليمن.
وأينما انتشرت الميليشيات تنتشر الحروب الأهلية والفساد والعنف والتدمير والاغتيالات، ولا فرق في هذا إذا كانت الدولة غربية أو شرقية، أو من هذا الدين أو ذاك. والميليشيات أو عصابات «الكاوبوي» كما كانت تسمَّى منذ بدء استيطان الأوروبيين في أميركا في القرن السابع عشر وما بعده، كانت موضع فخر ذلك العصر بشهادة أفلام هوليوود السينمائية، ولم نكن نفكر أن «الكاوبوي» الأميركي سيحتل بعض بلداننا في يوم من الأيام؛ لكن هذا ما حدث في حروب بوش الأب والابن وكلينتون وأوباما.
والأمر لا يقتصر على إيران وميليشياتها وحشودها الفاسدة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والولايات المتحدة ومرتزقتها من تنظيمات «بلاك ووتر» وغيرها، فقد تحولت هذه التجارة إلى شركات عسكرية خاصة عابرة للقارات والمحيطات، ولا فرق بينها وبين الميليشيات المحلية الفاسدة التي تحولت إلى ذراع إيرانية إرهابية ضد المصالح العربية العليا.
إذا فتحت راديو روما فستسمع أخباراً عن ميليشيات «القمصان السوداء»، وفي روما دع الإيطاليين يحدثونك عن «فاشيرنو إيتاليانو» أي الفاشية الإيطالية. وأشهر ميليشيات الفلبين «ميليشيات أبو سياف». ومنحت إحدى ميليشيات المكسيك نفسها اسماً محترماً «فرسان الهيكل».
ولتخفيف جو هذا المقال الميليشياوي، نذكر قراصنة البحر في الصومال الذين استغنوا عن شعار الجمجمة والعظمتين، بعد أن لجأوا إلى حلول سلمية؛ حيث يتم رمي فدية مالية إليهم في البحر بواسطة طائرة هليكوبتر. ولكن ماذا يرمي العراقيون الفقراء لميليشيات «الحشد الشعبي» الإيرانية، الغارقة بمليارات الدولارات المنهوبة من خزائن جنائن بابل المعلقة؟!