بقلم - داود الفرحان
شهدت الأيام الأخيرة حرباً علنية بين سفارات روسية وأوروبية، تم خلالها إبعاد متبادل لدبلوماسيين بالجملة بتهمة التجسس، من دون ذكر أي تفاصيل. وهو أول تصعيد على هذا المستوى منذ الحرب العالمية الثانية التي تم خلالها تبادل إغلاق سفارات وإبعاد دبلوماسيين.
وشملت القوائم أكثر من 400 دبلوماسي روسي تم إبعادهم. وردّت موسكو بالمثل، والتهمة واحدة، هي «التجسس»، ولكن على من ومتى وكيف، لم تصدر أي بيانات.
ويمثل هؤلاء الدبلوماسيون دولاً كانت حريصة على «الحياد» أو عدم فتح جبهات تدخل منها رياح الحروب، مثل السويد والدنمارك والنرويج والنمسا والبرتغال وإسبانيا ولكسمبورغ.
في الواقع، إن أكبر الدول نشاطاً في قضايا التجسس وتجنيد العملاء هي الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وبريطانيا. أما بقية الدول فتكتفي بالعلاقات العامة والحفلات الدبلوماسية وأقوال الصحف.
ومنذ أن بدأت أفلام التجسس على طريقة جيمس بوند، صار حلم كثير من الدبلوماسيين في الدول النامية «تقمص» هذه الشخصية، حتى من دون طلب من الدول التابعين لها، وإرسال تقارير إلى الدول التي يحملون جنسياتها، ليس فيها أي «تجسس» وإنما تقارير سياسية واقتصادية وحتى عسكرية، منقولة من الصحف والمجلات وخالية من أي أسرار! الآن الأقمار الصناعية تقوم بالمهمة وبالتفصيل، والتطور السيبراني صار مذهلاً ولا يحتاج إلى سفارات ودبلوماسيين وضباط مخابرات وسيارات فارهة مسلحة. وأكثر من ذلك فإن معظم أسرار الدول صارت في رقبة المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية من دون أي مغامرات برية أو جوية أو بحرية.
قبل أكثر من ألف سنة، اخترع العرب «الفانوس السحري» و«عبدك بين يديك» الذي كان يكشف أسرار «ألف ليلة وليلة»، وشهريار، ولص بغداد، والكنز المفقود، وعلي بابا.
في العام الماضي وقبل الحرب الروسية على أوكرانيا، أعلنت إيطاليا أنها أبعدت دبلوماسياً روسياً على خلفية كشف قضية تجسس تورط فيها ضابط في سلاح البحرية الإيطالي. وقالت الشرطة الإيطالية إن الرجلين قبض عليهما «متلبسين» بعد أن قام الضابط الإيطالي بتسليم وثائق سرية مقابل مبلغ مالي إلى الجاسوس الروسي. وذكرت روما أن أحد الشخصين كان قبطاناً في فرقاطة في البحرية العسكرية الإيطالية، والثاني كان ضابطاً معتمداً في سفارة روسيا. وهي تهمة خطيرة تتعلق بالتجسس وأمن الدولة. وهذه هي أول عملية من هذا النوع في السنوات الأخيرة، وفي ظل علاقات دبلوماسية عادية تغلب عليها المصالح المشتركة بين البلدين.
وذكرت صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، أن القبطان الإيطالي، واسمه والتر بيوت، كان من عناصر هيئة أركان الدفاع الإيطالي، وكانت لديه إمكانية الوصول إلى الوثائق السرية المسرّبة، بما في ذلك وثائق سرية تتعلق بنشاطات حلف الأطلسي حول مهام دولية حربية على غرار الحرب على العراق وأفغانستان. وكان الضبط قد تم على طريقة هوليوود في موقف سيارات بالعاصمة.
وتزامنت القضية مع قضية معارض روسي يدعى أليكسي نافالني، وعدة حالات تجسس أخرى. وحدثت حالات روسية أخرى في الوقت نفسه مع دول أوروبية أخرى، بينها بلغاريا وهولندا والنمسا وفرنسا والتشيك. وتم إغلاق معظم هذه القضايا والاكتفاء بإبعاد الدبلوماسيين المعنيين، إلا أنها تركت بصماتها الحذرة على العلاقات الدبلوماسية المشتركة.
في الحروب العالمية أو الدولية، كل دولة تتصرف وفقاً لمصالحها، وقضايا الجواسيس الأميركيين أو الإسرائيليين أو الإيرانيين أو الروس أو الصينيين، معظمها حكايات تعود إلى زمن مضى، فالأقمار الصناعية والطائرات من دون طيارين والتشويش السيبراني والهواتف النقالة وكاميرات المراقبة، تقوم الآن بكل عمليات التجسس دون أي مخاطرة أو اتهامات بالتجسس أو طرد دبلوماسيين أو حتى قطع علاقات.
وقد يبدو أن عملية إبعاد أكثر من 400 دبلوماسي من السفارات المتبادلة مفتعلة أكثر مما هي حقيقية؛ بل إنها جاءت في وقت غير مناسب، وأضافت عبئاً آخر على العلاقات المتوترة بين روسيا والدول الأوروبية.
وبدلاً من أن تقوم هذه الدول -وبينها روسيا بالطبع- بحملات لإبعاد دبلوماسيين من السفارات، عليها أن تبذل جهودها لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا، وأول ما يحتاجه هذا الهدف هو طمأنة موسكو عسكرياً وأمنياً من مخاطر حلف الأطلسي، أو نيات دوله المحاذية لحدودها، وتعويض أوكرانيا عن خسائرها المادية، علاوة على خسائرها البشرية.
وعلى الدول الأخرى، مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، والصين وتايوان، أن تتعلم الدرس جيداً، وتتجنب أي حرب عسكرية أو اقتصادية أو دبلوماسية.
ومن الغريب أن العاصمة النمساوية فيينا صارت محور مشكلة تجسس ألماني على عدد كبير من المؤسسات والشركات النمساوية، بينها سفارات ومنظمات دولية، مثل «أوبك»، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمفاوضات الدولية مع إيران حول نشاطها النووي.
وقال الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلين، إن هذه المسألة ستعيد أزمة الثقة بين الدول على المدى الطويل كما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية»، بعد أن كانت فيينا تشتهر في الذاكرة العربية بأغنية «ليالي الأنس» كما غنت قبل عقود المطربة السورية الراحلة أسمهان. كل الأزمات قابلة للحل؛ لكن أزمات السفارات فواتيرها مرتفعة وخسائرها كبيرة.
وفي العلاقات الدبلوماسية تُطلق عبارة «شخص غير مرغوب فيه» على الدبلوماسي المُبعد. وهو نوع من الاحتجاج أو لتسجيل موقف سياسي. وفي الغالب تقوم الدولة الأخرى برد فعل مشابه أو أكثر حسب نوع القرار ومستواه.
وفي تداعيات الحرب الأوكرانية، كل الاحتمالات واردة، وقد تصل إلى إغلاق سفارات والرد عليها بالمثل. مع ذلك، قد تُسفر الوساطات الهندية أو الصينية عن ترميم ما تبقى من علاقات.