اليابان قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك

اليابان... قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك

اليابان... قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك

 العرب اليوم -

اليابان قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك

بقلم - داود الفرحان

لم تدخل اليابان حرباً بعد الحرب العالمية الثانية. لكنها أسهمت بشكل سلمي مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حرب احتلال العراق عام 2003. والآن السياسة اليابانية تدير أنظارها في جميع الاتجاهات لأنها تخشى روسيا، وهي تفتح عيونها على تجارب صواريخ كوريا الشمالية، وقلبها يدق لأي تجاوزات سلمية بسبب جزيرة تايوان.

كل شيء في كوكب اليابان مختلف؛ فالأجهزة الإدارية في الدولة هي التي تتبنى السياسة الخارجية المحايدة متجنبة «قفص» البيروقراطية والنظم القديمة. ومرَّت عقود من الإصلاح الإداري قبل أن يتم التركيز على المحور السياسي باحترافية عالية واستقلالية في رسم سياسات «الدولة» وليس «الإدارة» فقط.

يقول الكاتب الياباني هيديناكي إنه لم يعد من الحكمة التقليدية أن يسيطر «الزعماء» السياسيون على عملية صنع السياسات لوحدهم؛ فهذا تاريخ مضى. الآن مع ذروة النمو الاقتصادي الياباني والتحديات الخارجية، يرى الخبراء اليابانيون أن قوة صنع السياسة وبراعة النخبة من الإداريين المحترفين وراء التطور السريع.

معروف أن طوكيو أمامها أزمات سياسية داخلية وخارجية، وعليها أن تتجاوز عُقَد الحرب العالمية الثانية وتنسجم مع محيطيها البحري والبري قريبة من عناقيد السلام بعيدة عن أشواك الحرب.

مع التنبيه إلى أن «البيروقراطية» بالمفهوم الياباني ليست «البيروقراطية» المعقدة بمفهومنا.

فمن مميزات المدير الياباني أو رئيس الشركة أنه إذا أدت سياسته إلى فشل الشركة أو خسارتها، أو إذا ألحق أضراراً بها بسبب فضيحة مالية أو شخصية، فإنه يمتلك الشجاعة الكافية التي تؤهله لأن يقف أمام منتسبي الشركة ويعترف بتقصيره علناً.

وهو لا يطلب العفو والمغفرة ونسيان الماضي، ولا يبحث عن أعذار لتسويغ الفشل، ولا يفتش عن شماعة أو كبش فداء، لكنه يحترم نفسه والآخرين فيتحمل المسؤولية كاملة ويقدم استقالته على الفور.

والمدير الياباني ليس مديراً من وراء الكواليس أو الكوابيس، لكنه جزء من النشاط المقرر للدائرة أو الشركة أو المؤسسة، فالسيد «توياما» وهو مدير أحد مصانع السيارات اليابانية يبدأ يومه بقراءة التقارير الإدارية والفنية من النوبة الليلية للعمل عن أي مشاكل في السيطرة النوعية على الإنتاج، ثم يعقد اجتماعاً مع مساعديه من فريق السيطرة لمناقشة التقارير واقتراح الحلول وإبداء الملاحظات.

وجرت العادة في كثير من الشركات اليابانية أن يختار المنتسبون في كل أسبوع شعاراً معيناً يعملون في ضوئه مثل «إنتاج أكبر من خلال الجهد الجماعي»، أو «سمعة الشركة تهمنا جميعاً»، وخلف هذه الولاءات القوية للجماعة تكمن أسرار النجاح الصناعي الذي تفتخر اليابان به.

فالمدير الياباني أو الوزير أو السفير يقضي كثيراً من يوم عمله يتابع ويراقب ويرشد ويسأل ويشكر. وهو يبتسم طوال الوقت لأنه يعد الابتسام دليلاً على الثقة في النفس. والدنيا تضحك كثيراً لليابانيين، ويا ليتها تضحك لنا، لأنهم يعرفون قيمة الحياة وقيمة العمل وقيمة الوقت.

ورئيس العمل ليس رئيساً فقط لمنتسبيه، لكنه صديق لكل منهم ويتعاملون معه كأنه أب أو أخ كبير. وهم يطلبون توجيهاته في العمل مثلما يطلبون مشورته في قضاياهم الشخصية وعلاقاتهم العائلية. وهو لا يمانع في أن يكون وسيطاً لترتيب إجراءات زواج أحد منتسبيه من زميلة له في المصنع أو من خارج المصنع. وهو ضيف الشرف في حفلة الزواج، وأول من يسمع عن أي خلاف عائلي بين الزوجين بعد انتهاء شهر العسل!

وحين تعلن مذيعة الإذاعة الداخلية في الشركة عن موعد تناول وجبة الغداء، فإن المدير لا يتوجه إلى قاعة خاصة بالمديرين، لكنه يذهب إلى القاعة الكبرى، حيث يجلس جنباً إلى جنب مع منتسبيه يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون. وبعد العمل تستمر العلاقات الشخصية في المطاعم الشعبية أو حتى في منزل المدير، حيث تجري مناقشة أحدث وسائل السيطرة النوعية على مائدة يابانية تقليدية يتصدرها الرز والسمك وشوربة الأعشاب البحرية.

وبالنسبة لليابانيين فإن لعلاقة أي فرد منهم مع الجماعة أهمية قصوى في حياته الخاصة والعائلية. وعلى أرضية الحقل أو المصنع أو المؤسسة يترجم هذا الشعور الشخصي إلى رغبة شديدة في أداء أعلى مستويات الإنتاج والجودة الممكنة لرفع اسم بلاده عالياً أولاً، ولإرضاء رئيسه وزملائه في العمل ثانياً، ولإرضاء نفسه وأسرته ثالثاً. فالبيت والعمل والوطن كيان واحد لا يعرف الازدواجية أو الباطنية أو الوجهين، أو الكذب والنفاق وتزييف المشاعر والابتسامات الصفراء.

من لا يعرف اليابانيين جيداً، يظن أن الشعب الياباني شعب أخرس! لكن اليابانيين غير مغرمين بالكلام والثرثرة، على عكس الحال عند غيرهم من الأقوام الأخرى التي تعتقد أن الكلام والفلسفة متعة من متع الحياة التي ينبغي الاستمتاع بها إلى آخر نفس.

وعلى الرغم من انفتاح اليابان على الغرب وتأثرها بكثير من إيقاعات الحياة فيه، فإنها لا تزال تحمل كثيراً من التقديس لتراثها الحضاري والاجتماعي والثقافي.

ومن النادر أن تخلو برامج التلفزيون هناك من تمثيليات وفعاليات يظهر فيها الممثلون بالملابس التقليدية اليابانية، حيث يستذكرون حقباً مختلفة من حياة الشعب الياباني بما فيها حياته المعاصرة. ومن الأمثلة الحية على تمسك اليابانيين بشخصيتهم الوطنية «المسرح الياباني». فهذا المسرح لم يتأثر إلا بنحو محدود بأفكار المسرح الغربي، ولا تعرف خشبة المسرح الياباني إلا نادراً ما يُعرف بالمسرح التجريبي.

إنه خليط بارع من العادات الاجتماعية اليابانية التقليدية متمازجة مع التقنية المتطورة التي شكلت اليابان الحديثة. التجربة الفريدة التي تستحق الدراسة والاستفادة بعيداً عن التجارب الغربية التي علمت البعض أن يكون لا هو هنا ولا هو هناك.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اليابان قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك اليابان قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab