بقلم - زهير الحارثي
والعالم يتجه إلى تشكل حالة تشبه بزوغ نظام عالمي متعدد الأقطاب بدليل ما يترجَم الآن على الأرض وما نشاهده من مماحكات وتعليقات بين القوى المؤثرة على سطح الكوكب، لا يزال العالم العربي رغم كل شيء يدور في حلقته المفرغة. تأمل المشهد. فالمرحلة التي تعيشها المنطقة العربية على خلفية المتغيرات الإقليمية والدولية هي قديمة - جديدة؛ إذ لا تلبث أن تتشكل من جديد حالما تصل إلى نقطة الذروة. تكرار المشهد ثابت وإن كان بصور وشخوص وسيناريوهات مختلفة، ومع ذلك تصل إلى ذات النتيجة في نهاية المطاف. هذه ليست ألغازاً بل أحداث ومواقف وقصص مليئة بتحولات ومتغيرات عمّا واجهته دول المنطقة من قبل.
المشهد السياسي لا يحتاج إلى تعليق، فمثلاً شاهد ما يحدث في لبنان إزاء الاستحقاقات التي يواجهها، فتجدها لا تختلف عن مشهدية الفراغ الدستوري، الذي شهدته بيروت من قبل رغم وجود المؤسسات الشكلي. الإشكالية المزمنة للقرار السياسي اللبناني تكمن في أنه يغلب عليه التأثير الخارجي، وبات اللبنانيون يتساءلون عمّن عطّل المؤسسات الدستورية وخطّط لتصل البلاد إلى هذا الوضع المهين، بل يخرج للإعلام من جديد مَن يزايد فيُحرج بلاده في وقت حساس ليصبّ الزيت على النار. عقليات مريضة عشقُها أن تكون تحت الأضواء ولتذهب البلاد إلى الجحيم. منطق عقيم ومؤسف ولكنه شعار المرحلة في لبنان بدليل أن طرفاً واحداً في لبنان امتهن إدخال البلاد في أزمات متوالية ومنعطفات خطيرة ثم يزعم أنْ لا علاقة له بذلك.
المسألة تتجاوز دور وإخفاقات رئيس الدولة وصهره ومؤسساتها إلى ما هو أبعد من ذلك، فما يحدث الآن هو السعي للهيمنة المطلقة على لبنان وتحويله لساحة وممر لحلول إقليمية، وملعب للتجاذب والاستقطاب. ورغم أن الحل يكمن في الحوار والتوافق وتقديم التنازلات وتغليب مصلحة لبنان على المصالح المذهبية والفئوية والحزبية، فإن أجندة القوى الإقليمية، وتحديداً إيران، هي من تضع الشروط و«حزب الله» ينفّذها حرفياً ما جعل الأزمة تلقي بظلالها سلباً على مقدرات البلد وعلى حياة المواطن اللبناني المعيشة.
أما العراق فكنا في الماضي نخشى عليه لأنه كان مسلوب الإرادة والسيادة وأصبح المشهد برمته مأزوماً وملغوماً، وباتت سماؤه ملبدة بغيوم القتل الجماعي اليومي والتدهور الاقتصادي، ولكن نُفاجأ اليوم بأن غياب التوافق العراقي الوطني يستقطب الأغلبية العراقية حوله بكل تكويناته العرقية والإثنية وأصبح الأصل والثابت والدائم في العملية السياسية العراقية بسبب نزعة أطراف محسوبة على إيران في الاعتلاء على المشهد أو تخريبه في حالة الإخفاق. مهما نتفاءل بتحولات الحكومة العراقية وما فعله الرئيس النشط الوطني الكاظمي وما قاله الزعيم الصدر إلا أن كيانات خفية لا تزال تتدخل فتخون مصالح الدولة العظمى وتعرقل العمل الوطني وتكرس سياسة الإقصاء الطائفي والسماح لإيران بالهيمنة على القرار السياسي العراقي. دقة المرحلة تقتضي من العراقيين أن يغلّبوا مصلحة العراق على المصالح الفئوية وأن يكون قراره مستقلاً وليس مرهوناً لأحد. بصيص الأمل في العراق بات يفقد توهجه والكرة في ملعب العراقيين الشرفاء.
أما اليمن وقد أصبح محتلاً من جماعة فوق القانون والدولة وقامت بانقلاب على الشرعية واستولت على مقدرات البلاد وبات الشعب اليمني ضحية أفعال الحوثي... كنا نعتقد مع كل القرارات التاريخية والمبادرات السياسية والإنسانية التي قدمتها دول التحالف بقيادة السعودية أن تلك الجماعة سوف ترتهن لصوت العقل والمنطق والحكمة وتبحث عن السلام والاستقرار وتحقيق مطالب الشعب اليمني، الذي لا يزال يعاني بسبب تعنت هذه الجماعة التي تتلقى أوامرها من الخارج وهنا تكمن المعضلة والمأساة في آن. المجتمع الدولي وصل لقناعة أن مأساة الشعب اليمني تقع على النظام الإيراني الذي يعقّد كل الحلول ويستنزف الجهد الدولي لكي يساومه في ملف برنامجه النووي. المساومة والمقايضة والمماطلة أساليب إيرانية تميزت بها طهران ومنذ فترة طويلة.
أما فلسطين فيطول الحديث، ولكنها، أي القضية، كانت ضحية ساستها للأسف. تاجرت بها إيران ووظّفها الكثير من الأحزاب في فلسطين لصالحها وأجندتها ومنافعها. كلام حارق ولكنه الحقيقة. المصالحة الفلسطينية لا يمكن لها من الاستقرار والاستمرارية، حيث سرعان ما يطرأ الخلاف عليها وحتى بعدما توصل الطرفان لاتفاق، ما يعني عودة الأسطوانة المشروخة وأسلوب التخوين، والتراشق الإعلامي... هذا السلوك أصبح مقززاً ومشوهاً ومعيقاً للقضية في المقام الأول مما أضعف تأثيرها في الساحة الدولية.
ثمة قواسم مشتركة ما بين تلك الدول فيما يجري في جوف مشهدها السياسي من خلال تكريس سياسة المحاور والأحلاف التي تتدخل في شؤونها. محور الشر برعاية إيران لا يخدم استقرار المنطقة ولعل أذرعتها كـ«حزب الله» والحوثي و«حماس» تعرقل أي تقدم سياسي بل تحاول توسيع نطاق الصراع وتوريط دول أخرى في المواجهة.
إيران استطاعت أن تدخل في نسيج تلك الدول بسبب ضعف النخب السياسية وقلة الوعي السياسي والثقافي وهشاشته وبطء مسار التحديث وسيطرة العصبيات الآيديولوجية والعشائرية في الهوية الاجتماعية، وعدم وجود قاعدة مجتمعية منظمة قادرة على دفع حركة التغيير. ومع ذلك لا يزال الأمل قائماً في الجيل القادم الذي لمحنا ملامحه في العامين الماضيين متمرداً ضد تدخل طهران في البصرة والضاحية الجنوبية وبيروت ورام الله.
لا يمكن للوضع أن يستمر هكذا، فالوقفة الدولية مطلوبة لإيقاف نزعات إيران الشريرة والتوسعية والمؤدلجة، ولعل موقف الكونغرس الأميركي خطوة أولى في الاتجاه الصحيح لتلقين النظام الإيراني درساً مهماً في أن العالم لا يقبل بالفوضى والأساليب العنترية والأحلام المؤدلجة، وباستطاعة المجتمع الدولي تكثيف عقوباته وصرامته مع النظام الإيراني لكي يرضخ لمبادئ القانون الدولي ومفاهيم الدولة لا الثورة.