بقلم : فهد سليمان الشقيران
يدور بعد مونديال كأس العالم جدل كبير حول دور التقنية في إدارة اللعبة. زين الدين زيدان اللاعب والمدرب المميز يعتبر دخول التقنية في إدارة الحكم بكرة القدم من الأخطاء المحضة، لأنها تدمر عفوية اللعبة، لكن هذه التقنية صارت ترصد كل شيء حتى الوقت بدل الضائع، وفي داخل الكرة شفرة ترصد متغيرات اللعبة. هذه التحولات تستحق النقاش.
منذ أوائل القرن العشرين والتقنية تفرض راهنيتها للفهم والتحليل، إذ تحوّلت تدريجياً بامتياز إلى وسيط بين الإنسان وأشيائه وأفكاره ومشاعره وتخيّلاته، وهي تطرح اليوم بكل وسائلها ووسائطها، باعتبارها حاضنة لما يدمّر الإنسان، على النحو الذي نراه في صيحات العالم تجاه مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرزها «تويتر» الذي يأرز إليه كل رموز مؤامرات القتل والإرهاب، حتى جاءت نتائجها كارثية، لتثبت أنها ليست مواقع للتواصل على طريقة الفعل الحواري، بل مواقع للتنافي، ولهذا يقترح عادل حدجامي تسميتها بمواقع «الاتصال» ويرى آخرون أنها مواقع وهم وانفصال. تلك التقنيات الساحرة الأسرة بحمولتها وشظاياها وكل ثورتها وترميزاتها المبثوثة تحتاج منا إلى فحص وفهم بغية لجم هذا الطوفان والتعرف عليه ومساءلته.
معضلة فهم التقنية تعيدنا إلى قرنٍ مضى لاستذكار ما كتبه مارتن هيدغر في مقالته عام 1953 تحت عنوان «مسألة التقنية». أراد من كتابتها البحث في «ماهية التقنية»، والبحث في علاقاتها. وإذا كان نيتشه قد افتتح نقد «عهد الآلات» ورمى بسهامه أعباء «ثقافة الآلة»، التي تجعل من الحشود «آلة نمطية واحدة يذوب في دوارها الفرد، وتحوله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة»، فإن هيدغر من بعده حاول دراسة علاقة «التقنية بالعالم» ليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، ما جعل لوك فيري يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة».
لقد كانت موجة التقنية في بواكيرها حينما وصفها بـ«ميتافيزقيا العصر»، وقد تتابعت التحليلات من بعد ذلك لدى هابرماس في درسه سنة 1965 وماركيوز، ومدرسة فرانكفورت في المرحلة الثانية من تطوّرها، لقد أثبتت التقنية أنها حدث ومجيء يتطلب كل الاهتمام والفهم.
يتواطأ الناس الآن على الشكوى من رسائل الآخرين، ومن عبودية عيونهم ورقابهم لأجهزتهم الكفّية، حتى المتخصصون يندبون حظّهم نظير ساعاتٍ طوال يبذّرونها بالتفاهات بدلاً من متابعة مطالعاتهم ومراجعاتهم وأبحاثهم. ولعل هذا الانتشار الكاسح يعبّر عن أزمة كبرى في العلاقة بين الإنسان ووقته وحياته، لكأن الاستسلام إلى «التطبيقات» هو إهراق لماء الحياة وإحراق لزهر العمر وتوزيع مجاني للساعات على تفاهة محضة من دون أي مردودٍ مفيد. إنه انتحار بطيء يعبر عن اليأس المرير أن تكون هذه الأجهزة الصغيرة هي البداية لأيامنا وهي النهاية، والمقياس لجودة إبداعنا عبر الثناءات المجّانية التي تطرح فيه، والمعنى من وجودنا عبر التعريفات المزيّفة التي تدبّج على طرّة الصفحة الشخصية عبر ألقابٍ لا تسمن ولا تغني من جوع.
وإذا كانت القيم أساساً تعاني من اهتزازٍ وتآكل، ومن اضطرابٍ غير مسبوق، وبخاصة بعد الأحداث السياسية واستمراء حالة الدم، والتهافت على حصص الفساد، فإن التقنية صارت كالمعول الضارب على أسس القيم، معلناً انهيارها وتفسّخها وتفتّق الاحتكاك الاجتماعي عن بوادر نهاية معنى الإنسان ووقوعه في شرك الجموع حيث التعاسة اليومية، والانهيار القيمي بالمجمل، وفقدان الشعور بالذات الإنسانية نظير عدم وجود دور علمي أو عملي يمكن أن يكون باعثاً على شعور الإنسان بفردانيته «الفريدة». هذه الحالات من الاتصال الاجتماعي تعزز من حالات التطابق والتشابه والتشاكل والوسوسة المستمرة بين شتى الشرائح للضخّ في موضوعاتٍ صغيرة والاصطفاف الطفولي باسم الانتماء المعيّن لهذا التيار أو ذاك.
وتلك الموجة التقنية لم تدرّب على التواضع والمعرفة، والرغبة في التواصل الحيوي المنتج مع الآخر بقدر ما أتاحت الفرصة لجمع من الجهلة لعرض بضاعتهم المزجاة على منصّاتها، وكانت بالفعل رافعة لكثيرٍ من الفقاعات في المجالات العلمية تحديداً، حتى اكتشفت قلة من العقلاء كثيراً من الزّيف، ثمة حملات مهمة كشفت عن رسائل أكاديمية ودرجاتٍ علمية مزوّرة، أو من جامعاتٍ وهمية لبعض نجوم تلك التطبيقات، والعجب أن أولئك لا تزداد الجماهير إلا متابعة لهم، وتصديقاً لزيفهم، ونسياناً لكوارثهم وجناياتهم العلمية والمعرفية.
لقد طرحت التقنية نفسها بنسخة الاستخدام العربية على أنها منصّة مجانية تحرّض وتغري من ليست له علاقة بأي مجالٍ على امتطائه وادعاء الخبرة فيه والتمكّن من تفاصيله ودهاليزه ومصاعبه.
وقصة التطرف والإرهاب المرتبطة فيها باتت دولية، إذ سرعان ما هبّ الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة للحديث حول مواقع التواصل الاجتماعي ونتائج السيلان المعلوماتي المتوفر فيه والحرية المستغلّة من جماعات العنف، وعلى رأسها تنظيما «القاعدة» و«داعش»، وهذه تحتاج إلى تشريعات وأنظمة قانونية صارمة تلجم هذا الاستغلال المخيف.
لكن بعد كل هذا التشخيص ووضع الصور الكارثية وإدانة الظاهرة «التويترية» هل من حلولٍ ممكنة؟ من البدهيات أن ينشد الإنسان الحرية للجميع، والرغبة في زيادة مساحات انطلاق منصات التعبير والإبداع، غير أن غياب القيم الذاتية الفردية وهشاشة الأخلاق إلى حد انعدامها أحياناً يفرض علينا الشعور بالغثيان من شكل الفعل والقول والسلوك الذي مورس في مساحة الحرية، حينها نتساءل إن كنا فعلاً نستطيع تحمّل أعباء الحرية المرتبطة قانونياً بالمسؤولية، وهذا ينطبق على التقنية بشكلٍ واضح وناصع.
تثبت تجربة عقود من انفجار التقنيات، على تفاوت جماهيريتها، مستوى الاستخدام الأولي السيئ لأي صرعة جديدة، ذلك أن «التقنية لا تفكّر»، بل تدخل كأداة «تنعجن» بأخلاق وقيم المجتمع الذي تشتغل فيه، وعليه تكون كل تجلياتها عبارة عن شرح أمين وعرض دقيق وإيضاح فصيح لكل أمراض وانهيارات المجتمع. إن التقنيات تدخل على المجتمعات الضعيفة مثل الزلازل فتحدث خسفاً، ذلك أن القيم المطلوبة لتشغيلها هشّة، لهذا صارت التقنية لدينا هي النعمة، وهي اللعنة، ولله في خلقه شؤون.