بقلم -فهد سليمان الشقيران
في ظل الصراع الدائر اليوم حول الأقطاب وصراع المحاور، تذكرت جملة مهمة للفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، يقول فيها: «الرأسمالية ليست مجرد التلهف للربح والفائدة، وإنما السيادة عن طريق التنظير العقلي».
ثمة انتماء بل وعصب للرأسمالية بالتغيير الثقافي والاجتماعي بالعالم؛ وفيبر تمتد جذوره إلى أجداد لهم باع في الصناعة وهم من البروتستانت. عاش في وسط بيت سياسي، فوالده مستشار في مجلس مدينة برلين، ثم غدا عضواً في مجلس النواب البروسي، وصولاً إلى عضويته بمجلس نواب ألمانيا (الرايشستاج).
تأثر بصرعات عصره، وتقلب بين ماركس ونيتشه، ولكنه فيما بعد أسس منهجاً في التحليل والنقد والفحص والمساءلة لم يسبق إليه، وهي الآلية «الفيبرية» التي اختص بها، على النحو الذي نراه جلياً في كتبه الكثيرة، التي تعد مرجعاً عالمياً في علم الاجتماع بشتى مجالاته، في التعليم والقانون، والعنف، والدولة، والسياسة، والاقتصاد، والموسيقى.
منذ بدايات تأليفه عام 1891، حيث أصدر أول كتاب له وهو أطروحة بعنوان: «أهمية التاريخ الروماني بالنسبة إلى القانون العام والخاص». ليصدر له من بعد عن وضع العمال الزراعيين في شرق الألب بألمانيا سنة 1892، وله من البحوث المبكرة كتاب يبحث في مجال منهج البحث بالاقتصاد وعنوانه: «روشر وكنيس والمشكلات المنطقية للاقتصاد التاريخي».
ارتبط منجز فيبر بأساس يقوم على الربط المتين بين الغرب الحداثي ونشوء العقلانية، وهي الفكرة التي سيجعل منها يورغن هابرماس خلفيته الفكرية التي تمكنه من الدفاع عن الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل بعد، وآية ذلك أطروحاته التي كتبها في موضوع الفلسفة والمجتمع والحداثة، وأبرز ما يوضح هذا الترابط كتاب «الأخلاق البروتستانتينية وروح الرأسمالية»، وفي نص له يقول: «كل السياسات الآسيوية كانت تفتقر إلى طريقة منهجية يمكن مقارنتها بطريقة أرسطو، وكانت تعوزهم بشكل خاص المفاهيم العقلانية، إن الأشكال الفكرية الدقيقة في منهجيتها الضرورة لكل عقيدة شرعية عقلانية، الخاصة بالقانون الروماني، وخلفه، القانون الغربي، هي أشكال غير موجودة أبداً خارج أوروبا»، هذا النص يحلله فيليب راينو في كتابه المهم «ماكس فيبر ومفارقات العصر الحديث»، وفيه ترجمة ورؤية مهمة لمحمد جديدي.
حسب سونغ هوكيم بتعريفه عن فيبر المنشور بموسوعة ستنافورد ترجمة الأستاذ حيان الغربي لمجلة «حكمة» الفلسفية، فإن «ماكس فيبر، يراه الكثيرون واحداً من أبرز المنظّرين في مجال علم الاجتماع خلال القرن العشرين، وهو يُعرف، رفقة كارل ماركس وإميل دوركايم، بصفته مهندساً رئيسياً لعلم الاجتماع المعاصر. وقد منحت إسهاماته واسعة المجال زخماً حاسماً لولادة حقولٍ معرفية جديدة، مثل علم الاجتماع، فضلاً عن إعادة التوجيه الجوهرية في علوم القانون والاقتصاد والعلوم السياسية والدراسات الدينية. علاوة على ذلك، لعبت كتاباته المنهجية دوراً مساعداً على إرساء الهوية الذاتية للعلوم الاجتماعية المعاصرة بصفتها حقلاً استقصائياً متميزاً بذاته. وما زال يُعتبر مصدراً للإلهام من قبل الوضعيين التجريبيين ونقّادهم التفسيريين على حدّ سواء. ولعلّ إسهاميه اللذين يلقيان المستوى الأعلى من الحفاوة هما (أطروحة العقلنة)، التي قدّم من خلالها تحليلاً ميتاتاريخياً شاملاً لهيمنة الغرب في العصور الحديثة، و(أطروحة الأخلاق البروتستانتية)، التي يبسط فيها أصل أنساب الرأسمالية الحديثة بمنهجية مغايرة للمنهجية الماركسية. وقد أكسبته هاتان الأطروحتان معاً شهرته كواحدٍ من المنظّرين المؤسسين للحداثة. ناهيك من أن اهتمامه الكبير بالسياسة ومشاركته فيها قد أفضيا إلى انتهاجه خطاً فريداً في الواقعية السياسية إذا ما قورن بالخط الذي اتخذه كلٌ من مكيافيلي وهوبز. وهكذا، مارس ماكس فيبر تأثيراً واسعاً امتدّ إلى عددٍ هائلٍ من الأفكار المسلكية والمنهجية والآيديولوجية والفلسفية التي ما زال اعتقادنا بها يتنامى على نحوٍ مطرد».
كان له الموقف الحاد من الديالكتيك بالمعنى الفلسفي الخاص، وقد رصد هذا النقد عبد الرحمن بدوي في مواضع من أبحاثه عن هيغل أو تعريجه على فيبر، ذلك أن الديالكتيك بالمعنى الهيغلي أو الماركسي يدعي أنه قادر على التغلب ضد المتناقضات والمنازعات المرتبطة بحال الإنسان، وذلك بواسطة مصالحة نهائية في مستوى التصورات.
من عمق التوتير نشأت رؤيته في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، والذي ينتهي في محصلته إلى أن ثمة توترات بين سلوك رجال الأعمال البروتستانتي، غير أن زهده وخلقه ودينه لا تعترض على أن يستخدم أمواله للاستمتاع الشخصي، بالإضافة إلى أن «الرسالة» تدعوه إلى مضاعفة أمواله، وخلاصة قوله إن الرأسمالية وليدة «الأخلاق» البروتستانتية ضمن الأدوار المناطة في فحوى الرسالة البروتستانتية وأخلاقيتها ومحفزات الفاعل الاقتصادي من خلال رسالتها ضمن التاريخ الطويل.
كانت هذه مهمته كسوسيولوجي وقد قالها: «إن السوسيولوجي مهمته أن يعثر داخل الأفعال الاجتماعية على ما هو عام من جهة، وعما هو خاص من جهة أخرى»، وذلك من خلال التعمق في رصد الروابط والعلاقات.
الخلاصة أن الرأسمالية أعمق وأثبت مما نتصور؛ صحيح أن ثمة تحورات وتحولات ولي أذرع بين الدول، لكن الرأسمالية باتت بما يشبه الواقعة الثابتة التي لا يمكن المحيد عنها، وآية ذلك أن الحرب الروسية الأوكرانية، وحين ارتحلت عنها بعض المطاعم وأساليب الرياضة، تم تعويضها بصناعات محلية لكنها مستنسخة من الصيغة الرأسمالية، وهذا هو بيت القصيد.