بقلم : فهد سليمان الشقيران
قبل أيام أجريت بعض الحوارات هنا في الإمارات مع بعض الطلبة والطالبات حول الفلسفة بالسعودية، وبعضها نشر، كل الحوارات دارت حول الفلسفة ودورها وكيف نصت عليها رؤية 2030، بل كيف تكونت الجمعية الفلسفية التي يرأسها الصديق الدكتور عبد الله المطيري. أبرز ما قلته أن الفلسفة جزء أساسي للتنمية الذاتية، وهي تسير بالتزامن مع التنميات الأخرى بكل المجالات في السعودية والإمارات.
مما قلته أن السعودية حالياً تنهض بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني نحو وثبة حضارية وتنموية غير مسبوقة بتاريخها. وآية ذلك أن الزائر لمدن المملكة ومناطقها المتعددة يجد المشاريع التي وُعد بها قد بدأ العمل عليها بالفعل. غير أن النهضة المعرفية، على غزارة شهدتها السعودية، على مستويات التعليم بعددٍ من الجامعات، تعدّ من بين الأفضل على مستوى المنطقة.
ثمة تعليم متفرد على مستويات العلوم الطبيعية بكلياتٍ جبارة، ولكن على مستويات الفلسفة والعلوم الإنسانية، فإننا نواجه مشكلة منذ بدء مرحلة التعليم الحديثة وحتى اليوم. حتى وإن تم تدريس علم الكلام، وبعض النصوص الفلسفية بالكليات الشرعية (لأجل النقص) ومقررات العلوم اللغوية واللسانية ومفاهيم النقد الأدبي الحديثة، فإننا نصل إلى تخوم العلوم الإنسانية ومنتجاتها الحديثة الصاعقة، أو الفلسفة بكل تاريخها المهم، ولا نجد إلا الخوف والهلع من هذه التخصصات.
وتأسيس المناهج التعليمية، وبناء المؤسسات الأكاديمية، وكل هيكلية التعليم أتت ضمن ظروفٍ خاصة، فالدولة حينها كانت غضّة، تؤسس نفسها تدريجياً، والمجتمع لتوّه يترقّب العالم بخيفة، ولكن بعد قرنٍ من الزمان يمكننا الطمع بتطوّر استثنائي على كل المستويات، ومنها تطوير العلاقة المؤسسية والمجتمعيّة مع الأبواب العلمية المختلفة ومنها الفلسفة.
لقد زخر تاريخنا الإسلامي بأجواء فلسفية استثنائية منذ القرون المبكرة، حيث سجالات المتكلمين، والمحاججات المنطقية، والإفادة من الإرث اليوناني، والاطلاع الشجاع على الحضارات المحيطة. أسماء خالدة بتاريخنا الإسلامي مثل الكندي والفارابي وابن عربي والرازي والغزالي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا، والمئات سواهم. طرأت ظروف الانحطاط على العالم الإسلامي فكأنما لسان الكون نادى في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة كما يعبّر ابن خلدون، وسيطرت التيارات الحشوية والنعرات الاصطفائية على الخطاب العقلي والفلسفي، فانساق التاريخ وراء الهذر الطويل خارج سياق العلم والعقل، سنوات من «سبات العقل» أو «العقل المستقيل» كما هي فقرة سجال طويل بين الندّين المهمين طرابيشي والجابري.
حاول علماء كبار أنسنة الثقافة الإسلامية، مثل فعل ابن مسكويه والتوحيدي وفيلسوف آخر مهم هو أبو الحسن العامري (القرن العاشر الميلادي)، ولمنى أبو زيد أطروحات عديدة عنه مثل كتابها «الفلسفة في فكر العامري»، ولكن من حفر في نصّه أكثر الراحل محمد أركون في كتابه المرجع «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية»، وهو استمرار لأطروحته عن «جيل ابن مسكويه والتوحيدي»... في الكتاب يدرس العامري عبر الفصل الخامس الذي عنونه بـ«اللوغوس المركزي والحقيقة الدينية - من خلال كتاب (الإعلام بمناقب الإسلام) لأبي الحسن العامري»، ونتيجته عنه: «إن العامري لا يمثل في كتابه دفاعاً عنيفاً أو جدالياً بشكلٍ كاملٍ عن الدين الإسلامي، كما أنه لا يمثل تدخلاً عنجهياً أو إمبريالياً للمعرفة الفلسفية. وإنما نكتشف فيه بالأحرى نوعاً من التجميع للمشاكل الأساسية ولمجريات تحقق الثقافة العربية الإسلامية بالصيغة التي خرجت فيها بعد أربعة قرونٍ من الممارسة، إذا ما حللنا هذه المجريات فسوف يكون من الممكن أن نكتشف المشاكل الكبرى التي تلاحق الوعي الإسلامي كالهاجس الملح» (ص222).
هدف أركون من البحث ضرب جبهتين؛ خطأ منع تدريس الفلسفة، والآخر خطأ منع تدريس الأديان في فرنسا، كما في نقده لجون فيري «مؤسس المدرسة العلمانية الحديثة»، فهو يطالب بتدريس «علم الأديان المقارن» باعتباره جزءاً أساسياً من التكوين المنهاجي للطلاب لأجل الوعي بالتاريخ الذي طحنهم، ولا يرى بذلك أي إحياء للعصبيات الدينية، ولهذا يغضب من أركون المتعصبون المسلمون، والعلمانيون التقليديون، وهاشم صالح شبّه أستاذه أركون بأنه مثل «رينان عند المسيحيين»، بالطبع التعصّب ينفي القدرة على المعرفة والتعلم.
الفيلسوف العامري يرفض معاندة العلوم الحديثة حين يكتب: «إن العلوم الحكمية قد طعن عليها قوم من الحشوية، وزعموا أنها مضادة للعلوم الدينية، وأن من مال إليها وعني بدراستها، فقد خسر الدنيا والآخرة، قالوا: وليست هي إلا ألفاظاً هائلة، وألقاباً مزخرفة، زيّنت بمعانٍ ملفّقة، لينخدع بها الجاهل الغرّ، ويولع بها المتظرّف الغمر. وليس الأمر كذلك. بل توجد أصولها وفروعها عقائد موافقة للعقل الصريح، ومؤيّدة بالبرهان الصحيح، حسبما توجد العلوم الملّية (أي الدينية)، ومعلوم أن الذي حققه البرهان وأوجبه العقل لن يكون بينه وبين ما يوجبه الدين الحقّ مدافعة ولا عناد».
تلك المقولة منذ أحد عشر قرناً من الزمان، ومع ذلك لا نزال نعاند ونقاوم العلوم الحديثة التي تتطوّر مفاهيمها يومياً بالعالم.
بعد رحيله، نشر لأركون كتاب يشبه المذكرات عن حياته ودنياه بعنوان «التشكيل البشري»، وفيه قال بمرارة: «أنا شخصياً أشعر وكأنني بشر في صحراء قاحلة من الفكر بمؤلفاتي وأبحاثي، أشعر بأني وحيد».