بقلم - سام منسى
ضجت الساحة الدولية مؤخراً بمزاعم تتهم إيران بتزويد روسيا بمئات المسيّرات، استخدمتها في تنفيذ ضربات استهدفت المدن والبنية التحتية المدنية في أوكرانيا. يثير لجوء موسكو إلى طهران للتزود بالأسلحة مسائل كثيرة؛ أولها تراجع صناعتها العسكرية وهي التي تعد من أكبر منتجي الأسلحة في العالم ودولة عظمى تحمي تحت جناحيها دولاً عدة بينها إيران. أما ثانيها فيتعلق بدلالات هذا المستجد لجهة الاستراتيجية الروسية لإدارة حربها ضد أوكرانيا، ويرتبط ثالثها بتداعيات التورط الإيراني مع الروس في أوكرانيا على دول منطقة الشرق الأوسط إذا استمر وتزايد، لا سيما على علاقات بعض من دولها المتوجسة من تحالف إيران مع موسكو.
اضطرار روسيا للجوء إلى المسيّرات الإيرانية يشير بشكل واضح إلى عجز مصنعي الأسلحة المحليين عن تلبية حاجتها، ويتأكد ذلك إذا ما راجعنا معاناة الجيش الروسي من نقص الإمدادات العسكرية منذ اندلاع الحرب قبل ثمانية أشهر. نذكر هنا قول الكولونيل الروسي إيغور إيشوك لوكالة أنباء «تاس» الحكومية إن «وزارة الدفاع وضعت معايير تكتيكية وتقنية للمسيّرات، تعجز للأسف معظم الشركات الروسية المصنعة عن تلبيتها»، وهذا ما أكده الباحث في جامعة السوربون بيار غراسر حين قال: «مجرد استخدام الروس للمسيّرات الإيرانية هو اعتراف بفشلهم الصناعي... ويُظهر أن الصناعة العسكرية الروسية لا يمكنها مواكبة التقدم». وأضاف أن استخدام المسيّرات يوفر المال على روسيا ويعفيها من استخدام صواريخ كروز المرتفعة التكلفة.
خلاصة الأمر أن روسيا التي تعد تاريخياً مُصدِّراً رئيساً للأسلحة، باتت اليوم تطلب استيرادها من إيران وكوريا الشمالية، ما يؤكد الضغط الهائل الذي تتعرض له بعد أن فقدت -بحسب الإحصاءات الأميركية- 6000 قطعة من معداتها العسكرية منذ اجتياحها أوكرانيا، إضافة إلى تعثر اقتصادها. ويحضرنا هنا قول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن «مجرد مناشدة روسيا إيران للحصول على مثل هذه المساعدة هو اعتراف من الكرملين بإفلاسه العسكري والسياسي».
ويكشف اللجوء إلى استخدام المسيّرات الإيرانية حقائق عدة؛ أولها تصعيد الرئيس الروسي لحربه ضد أوكرانيا بعد الانتكاسة التي مني جيشه بها، والانتصارات التي حققها الجيش الأوكراني، وإصراره على كسب الحرب بأي وسيلة؛ أولاً لأنه بطبيعته لا يتراجع، وثانياً خوفاً من تداعيات الخسارة على الداخل.
بدأت بشائر التصعيد بإجراء أربعة استفتاءات في الأراضي الأوكرانية المحتلة جزئياً، ومن ثم بتهديد نووي مبطن رداً على التقدم الذي حققته أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة، وإعلانه التعبئة الجزئية للاحتياط في أول تعبئة في تاريخ روسيا الحديث، مع تقديم رواتب شهرية تصل إلى 3000 دولار لكل مجند.
بدأ بوتين يشعر أكثر بتنامي الضغوط الداخلية عليه والآتية من كل صوب، وبخاصة من المقربين الأشد تطرفاً، وعلى رأسهم سكرتير مجلس الأمن القوي، نيكولاي باتروشيف، الذي انتقد إدارة المعارك ودعا إلى بدء حرب شاملة تتطلب تعبئة كاملة ووضع الدولة يدها على الاقتصاد بشكل كلي.
وانضمت أصوات قومية متطرفة أخرى إلى دعوات للتعبئة، منتقدة طريقة تعامل وزارة الدفاع الروسية مع الحرب منذ بداية الاجتياح، منهم إيغور جيركين الذي اعتبر أنه «إذا لم يغير شيوخ الكرملين تكتيكاتهم، فسنشهد هزائم كارثية»، ورمضان قديروف، رجل الشيشان القوي الذي دعا إلى تغيير في استراتيجية الحرب يصل إلى «إعلان الأحكام العرفية في المناطق الحدودية واستخدام أسلحة نووية منخفضة القوة».
هذه الأصوات الممتعضة من إدارة الحرب دفعت بوتين إلى إعلان التعبئة الجزئية لاسترضائهم، في خطوة تشير إلى أن خوفه من حلفائه المتشددين في النظام بات أكثر من خوفه من معارضيه المناهضين للحرب؛ إذ يملكون القدرة على الانقلاب ضده وتهديد هيمنته. ويبدو أن الكرملين كان يقصدهم عندما وجه تحذيراً لمنتقدي إدارة الحرب في أوكرانيا ودعاهم إلى «توخي الحذر الشديد». ولا ننسى الضغوط الكبيرة من رجال الأعمال الذين يخسرون جزءاً كبيراً من ثرواتهم بسبب العقوبات.
الحقيقة الثانية هي تغيير موسكو نهج حربها في أوكرانيا من حرب أقلها شبه تقليدية يخوضها جيش نظامي وتراعي المعاهدات الدولية بشأن النزاعات، إلى حرب عينت مؤخراً لإدارتها الجنرال سيرغي سوروفيكين المعروف بلقب «جزار سوريا» نتيجة الانتهاكات التي ارتكبها إبان الهجوم على إدلب عام 2019، ويخوضها مرتزقة كمجموعة «فاغنر» يعتمدون ممارسات محظورة دولياً كقصف الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس ومراكز الطاقة والبنى التحتية المدنية، وغيرها من أساليب ترهيب المدنيين، إلى تجنيد السجناء وإرسال المتطوعين إلى الخطوط الأمامية بقليل من التدريب. كل ذلك يشير إلى عجز الجيش الروسي عن خوض الحرب، وأن موسكو بدأت مرحلة جديدة في مسار الحرب الأوكرانية عنوانها «كل الأساليب مباحة».
أما مسألة تداعيات التورط الإيراني في الحرب الأوكرانية على دول المنطقة، لا سيما على علاقاتها مع موسكو، فعلى الرغم من نفي طهران تدخلها في الحرب، فلا شك في أن الاستخبارات تعرف أن المسيّرات الانتحارية هي صناعة إيرانية وتشغّل بتوجيه ميداني إيراني من شبه جزيرة القرم، في أكبر مثال على قوة طهران المستشرية، كما على ضعف الروس المذهل الذي اضطرهم للوصول حتى إلى إيران ليحصلوا على تكنولوجيا يفترض أن تكون بحوزتهم قبل سنوات.
ما يعنينا هو التمعن في المدى الذي وصلت إليه قدرات إيران العسكرية والتكنولوجية بالرغم من العقوبات الأميركية، وتأثيرها على منطقتنا التي لا تزال تتعرض للاعتداءات الإيرانية في أكثر من مكان.
وتجدر أيضاً ملاحظة فتور الرد الأميركي على الانخراط الإيراني في الحرب الأوكرانية إلى جانب موسكو، وقد يكون وراءه ما عودتنا عليه الإدارات الديمقراطية الأميركية المتعاقبة من باراك أوباما إلى جو بايدن، وهو إعطاء الأولوية للعودة إلى الاتفاق النووي وسط القناعة الساذجة باستمالة إيران لحظيرة الدول الطبيعية، وتالياً غض نظر مفضوح عن ممارساتها. هذا الرأي يعززه موقف واشنطن الرتيب والمتردد والهادف إلى إنقاذ ماء الوجه من الانتفاضة النسائية والشبابية العارمة والمستمرة في إيران إثر مقتل مهسا أميني بعد اعتقال شرطة الأخلاق لها؛ «لارتدائها الحجاب بشكل غير ملائم».
وفي حين نعيب على أميركا مواقفها المتذبذبة من طهران وتسود البرودة العلاقات معها، وخصوصاً بعد رد فعلها المتوتر على قرار دول «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط، تبرز إشكالية تعزيز العلاقة العربية، لا سيما الخليجية، مع موسكو، وهي الممعنة في التكامل مع إيران على أكثر من صعيد ووجهة.
ما دامت الحرب الأوكرانية دائرة، فإن المتغيرات والمخاطر تتسارع، وقد يقترب إصبع بوتين من الزر النووي. وفي المقابل، غواصات الصواريخ الباليستية الأميركية من فئة «أوهايو»، وتعد من الأسلحة الأكثر فتكاً التي تمتلكها البحرية الأميركية؛ لضمان القدرة على توجيه «الضربة الثانية» في حال التعرض لهجوم نووي، وصلت إلى بحر العرب حيث تحتدم التوترات، ويمكنها لعب دور محوري في أي صراع محتمل ينشب فيه.
المنافسة طويلة المدى وشرسة وخطيرة بين «العالمين الحر وغير الحر» كما درجت التسمية، فهل يمكننا في الإقليم صوناً لمصالحنا وقيمنا البقاء خارج هذا الاصطفاف؟