بقلم - سام منسى
أصح توصيف للعمليات العسكرية في جنين بالضفة الغربية وفي غزة، أنها تجري في الوقت الضائع إسرائيلياً، ولبنيامين نتنياهو شخصياً بخاصة، وكذلك بالنسبة للفلسطينيين ولهذه السلطة الفلسطينية العاجزة والهرمة. ما من تفسير مقبول أو مفهوم لأسباب العمليات العسكرية، سوى أنها بنظر نتنياهو مخارج متاحة للانسداد والحصار الخماسي الأبعاد المفروض عليه، أو الذي وضع نفسه فيه.
البعد الأول هو إصراره على الائتلاف السياسي مع اليمين المتشدد، والذي يتطلب منه كسر الفلسطينيين والتشدد العنيف معهم، كما يحصل في غزة وفي الضفة، كونه لا يستطيع أن يقدم لحلفائه أي مطالب أخرى. الثاني هو الهاجس الذي يسكنه بألا يتحول إلى إيهود أولمرت، ويدخل السجن جراء التهم الموجهة إليه. الثالث هو تفاقم الأزمة الداخلية غير المسبوقة، جراء الانتفاضة على مشروع إصلاح القضاء؛ خصوصاً بعد أن أقرت لجنة الدستور في «الكنيست» الأسبوع الفائت، مشروع قانون التعديلات القضائية، على الرغم من إعلانه الغامض تجميده. محاولات نتنياهو تحوير الأنظار نحو الشأن الفلسطيني وقضايا الإرهاب لشد عصب الرأي العام الإسرائيلي، لم تثنِ المنتفضين على ما يبدو. الرابع هو استماتة نتنياهو في الحفاظ على الاتفاقات الإبراهيمية؛ لا بل توسيعها، في وقت باتت فيه سياساته وحكومته تشكلان أكبر تهديد لها. وأخيراً المشكلة المستجدة مع الإدارة الأميركية والرافضة كلياً لسياساته وتحالفاته، ويرافق هذا الرفض الرسمي معارضة شرسة لغالبية كبيرة أو صغيرة، إنما فاعلة، لليهود الأميركيين، لنتنياهو وحكومته، تركت تأثيراً كبيراً على العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، وعلى إسرائيل نفسها.
لم تبقَ أمام نتنياهو مخارج متاحة سوى العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، للهروب إلى الأمام وتصدير مشكلاته. هذا التوجه يعبر بشدة عن سياسات المناورات والهروب إلى الأمام التي اعتمدها نتنياهو منذ أكثر من عقد، نقرأها في مواقفه من عملية السلام المنسية، وفي سياسة الاستيطان المدمرة لحل الدولتين، أو ما تبقى منه، ومن الحرب في سوريا وانعكاساتها السلبية على إسرائيل؛ إذ وضعتها في مواجهة مزدوجة مع إيران: في لبنان وفي سوريا.
النتائج المستخلصة لسياسات نتنياهو؛ لا سيما مع حكومته المتطرفة العنيفة، هي طلاق مع السلام، وطلاق مع ديمقراطية إسرائيل، ولو أنها ديمقراطية بين السكان اليهود، والمتجسد بمشروع إصلاح القضاء، والحد من صلاحيات المحكمة العليا، إضافة إلى تبني مواقف شركائه في الائتلاف، والتي وصلت إلى حد تشكيل عصابات مسلحة من المستوطنين يهاجمون القرى الفلسطينية ويستبيحونها.
نتنياهو الذي هدد لبنان بأنه سيرجعه مائة سنة إلى الوراء، أرجع في الواقع إسرائيل من دولة تتباهى بديمقراطيتها وبأنها دولة قانون، إلى دولة تبيح الميليشيات المسلحة وممارساتها. كل ذلك دليل على افتقاره لأي استراتيجية وطنية، وأنه يتصرف بدوافع شخصية للبقاء في الحكم، ويتحالف مع متعصبين غير مقتنع بفكرهم، ما يدفع ببلاده إلى شفير حرب أهلية.
في المقلب الفلسطيني، المشهد لا يقل مأسوية. السلطة الفلسطينية باتت شبه معزولة عن غالبية السكان في الداخل الفلسطيني والشتات، مع أجيال أصبحت في العشرينات من دون أي أفق لحل ينتشلها من واقعها الصعب، وفقدت أي تواصل مع القوى السياسية والعسكرية التقليدية، وكل ما تهدف إليه هو تغيير واقع الاحتلال والحصار والبطالة والفساد المستشري. باتت السلطة في حال طلاق تام مع الأجيال الشابة، وعاجزة عن ترجمة تطلعاتها وأهدافها في السياسة أو الأمن أو الاجتماع، فنشأت مجموعات مسلحة قد تكون بمعظمها غير ممسوكة من جهات سياسية أو عسكرية معروفة.
الزمن الفلسطيني توقف منذ سنوات طوال؛ لا سيما بعد انهيار اتفاق أوسلو، ومن دون الغوص في المسؤولية عن انهياره إسرائيلياً وفلسطينياً، يبقى أن «أوسلو» من دون عملية سلام واقعية لا تعني شيئاً، وهذا ما أدى إلى الوضع الراهن.
تمسك نتنياهو بمواقفه وعناده وإمعانه في الشراسة وتوسيع الاحتلال، مضافاً للواقع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بين الانقسام والشرذمة وعجز السلطة وانعدام السياسة والفساد المستشري، ما هو المتوقع للفلسطينيين؟ التوقعات أحلاها مرٌّ، بين المراوحة في العنف الذي قد يشتد أحياناً ويخبو أحياناً أخرى في عذاب بطيء للفلسطينيين. وإذا تصاعد العنف وتحول إلى حرب واسعة النطاق بين الفلسطينيين وإسرائيل، فستكون لذلك ارتدادات خطيرة تدخل المنطقة في مسار خطير؛ لأنه سيجر تدخل قوى كثيرة يصعب ردعها، وعلى رأسها تلك المتحالفة مع إيران، ولن يتوقف هذا المسار من دون تراجع حكومة نتنياهو أو سقوطها.
ويبدو أن الرهان على أدوار للخارج، للضغط على نتنياهو وحكومته، شبه معدوم: الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات الرئاسية حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، ويستحيل أن تضغط بشكل ملموس ومؤثر على نتنياهو، بسبب خوف الحزبين الديمقراطي والجمهوري من خسارة أصوات اليهود الأميركيين المؤيدين لليمين. أما أوروبا، فيصعب أن تتفق دولها على رأي واحد، وإذ اتفقت فستأخذ وقتاً طويلاً لترجمته في السياسة. تبقى روسيا المنشغلة في حربها في أوكرانيا ومشكلاتها الداخلية، والصين التي لا يزال تأثيرها محدوداً على هذا الصعيد، هذا إذا شاءت التدخل. العامل الخارجي الأخير هو الضغط العربي الذي ينبغي ألا نقلل من تأثيره، ويصعب أن يبقى متفرجاً أو محايداً.
فهل يقامر نتنياهو بمكتسباته، وبما يمكن أن يتحقق مستقبلاً على صعيد العلاقات مع العالم العربي؟ الإجابة ممكنة فقط عند معرفة حدود جنون اليمين الإسرائيلي ومخاطره؛ ليس على الفلسطينيين فحسب؛ بل على إسرائيل نفسها. هذه المخاطر قد تفتح نافذة العامل الداخلي، أي دور المعارضة الليبيرالية في قلب المعادلة، والتي بدأت تعي الصلة بين نضالها من أجل الديمقراطية، واستمرار الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وأظهرت الأحداث الأخيرة في غزة وجنين مدى تأثير القضيتين على مكانة إسرائيل ومسارها المستقبلي، مع تسجيلها رابع أكبر تدهور لجهة السلمية؛ إذ تراجعت 8 مراتب لتحتل المرتبة 143 في العالم، حسب مؤشر السلام العالمي لعام 2023.