تشكل الفترة الزمنية الحالية مرحلة تغيير مهمة في تاريخ صناعة الطاقة العالمية. وقد بدأت بالفعل تتغير هذه الصناعة تدريجياً وبطيئاً منذ قرارات «مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ (كوب)» في باريس عام 2015.
انعقد «مؤتمر باريس» في ظل حملة عالمية ضخمة لا تدعو فقط لمكافحة تغير المناخ؛ بل ضمت أيضاً حملة لوقف استهلاك الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم الحجري) دون إعارة اهتمام كافٍ لمصادر الطاقة الأخرى؛ إذ جرى اعتبار الوقود الأحفوري السبب الرئيسي والأساسي للتلوث العالمي، مما أدى إلى تبني معايير غير متوازنة لمعالجة مكافحة تغير المناخ. فقد استثنيت مصادر طاقوية أخرى من مسؤولية التلوث، أو همشت تأثيراتها على تغير المناخ، مما أدى إلى تمييزها عن الوقود الأحفوري بعدم شمولها بإجراءات منع استعمالها في عصر «تصفير الانبعاثات».
تغيرت وجهات النظر نحو الوقود الأحفوري تدريجياً منذ «مؤتمر باريس» عام 2015، نتيجة التجارب العالمية الصعبة مع جائحة «كورونا»، ثم نشوب حرب أوكرانيا، والآن معركة غزة. والتغيير الأول الذي حدث هو الزيادة المستمرة في الطلب والإحساس العالمي المادي بضرورة استعمال البترول (النفط والغاز) بالذات لتلبية الارتفاع المستمر في الطلب العالمي السنوي على الطاقة، وأن الطاقات المستدامة (مثل طاقتي الشمس والرياح) مفيدة ومساعدة، لكن غير وافية أو مرنة لتلبية الطلب العالمي المزداد على الطاقة، خصوصاً خلال الأزمات والتقلبات الجوية. لكن هذا الشعور بالحاجة الماسة للبترول لم يكن وحده كافياً للإقرار بالحقائق الجديدة الصعبة إثر جائحة «كورونا» وإغلاقاتها أو ارتباك الأسواق إثر نشوب حرب مدمرة في أوروبا. ولم يكن سهلاً على الدول الصناعية الغربية الاعتراف علناً بتقصيرها في محاولة إيقاف استعمال البترول، بل استمرت هذه المجموعة من الدول، مستغلة شعار مكافحة التغير المناخي، في محاولتها «تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 من دون البترول».
على أثر ذلك، تحملت الدول المنتجة والشركات المسؤولية في توفير الدليل بأنه «بالإمكان إنتاج بترول منخفض الانبعاثات» ويجري هذا حالياً وبالفعل عبر تشييد وتطوير صناعة «تدوير الكربون». من ثم؛ يستنتج أنه من الممكن استمرار الاعتماد على البترول مع انبعاثات منخفضة لثاني أكسيد الكربون من خلال التقاط الكربون من البترول المنتج، فتخزينه في الآبار والكهوف الفارغة، وهي الوسيلة التي تبنتها بعض كبرى الدول النفطية والشركات، التي عبدت الطريق المتعثرة سابقاً أمام التوصل إلى قرار مؤتمر «كوب28» في دبي لاستمرار استعمال البترول منخفض الانبعاثات.
وهذا سيعني أننا أمام مرحلة طاقة جديدة؛ فبعد هيمنة الفحم الحجري خلال القرن التاسع عشر والبترول في القرن العشرين، فإن العالم اليوم سيبدأ التنافس بين البترول منخفض الانبعاثات والطاقات المستدامة (الرياح والشمس) من خلال المجال السعري، عبر الاحتياطات المتوفرة لكل مصدر طاقوي والتفوق العلمي بالذات لتطوير صناعة تدوير الكربون وتخفيض تكلفتها، بالإضافة إلى إمكانية الدول المنتجة في توفير الإمدادات بطرق مستمرة دون انقطاعات.
كما أن هذا سيعني أيضاً أنه سيتوجب على أكبر عدد من الدول المنتجة للبترول تبني صناعة «تدوير الكربون» لاستعماله لاحقاً دون انطلاق الانبعاثات جواً. وهذه عملية صناعية حديثة العهد؛ لكن تحت التشييد والتطوير. وهي ضرورية نظراً إلى ضخامة الاحتياطات البترولية التي لا تزال كامنة تحت الأرض، وإلى المنشآت التي قد جرى استثمار مليارات الدولارات فيها عالمياً.
يأتي الاعتراف في «كوب28» بتقليص الانبعاثات الكربونية للبترول بفاتورة بالغة التكاليف للدول المنتجة، لكنها مهمة لاستقرار الصناعة والاعتراف بها وبمستقبلها رسمياً، بعيداً عن استمرار الاحتجاجات والضغوط.
كما تأتي هذه المرحلة الجديدة مع مسؤوليات جمة على الدول الأخرى أيضاً؛ خصوصاً الصناعية منها، التي انطلق التلوث المناخي منها مع بدء الحرق الواسع للفحم الحجري مع نشوء الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة قبل قرنين من الزمن.
لكن، في الوقت نفسه، ستستمر الصعوبات للفترة المستقبلية، فهناك اختلالات في موازين القوى العالمية، مع تعدد الدول الكبرى الطامحة لاحتلال المركز الأول اقتصادياً وسياسياً عالمياً، ومع تقدم اقتصادات عدد من الدول النامية.
وكذلك في الدول الأوروبية، التي لا تجد ضرورة إلى التحول نحو الاستثمار في الطاقات المستدامة قبل أن تحصل على الوقود التقليدي للكهرباء، ومن ثم تطالب بزيادة فرصها في استكشاف وإنتاج البترول محلياً لمساندتها في التمويل، هذا بالإضافة طبعاً إلى عدم كفاية المساعدات والقروض الميسرة من الدول الصناعية لتمويل برامجها للطاقات المستدامة، في حال إقرار تشييدها عندها.
وفي مجال مكافحة التغير المناخي، تكمن مسؤولية كبرى على الدول ذات الغابات الشاسعة في العناية بهذه الغابات التي تساعد أشجارها في توفير الأكسجين واحتواء ثاني أكسيد الكربون. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فإن هذا التحول في صناعة الطاقة يوفر فرصة مهمة للدول النفطية، وغير النفطية منها، لما لعبه البترول من دور في التنمية العربية خلال القرن الماضي، رغم الفرص الضائعة الكثيرة بسبب الحروب الدولية والإقليمية والداخلية التي نكلت بشعوب المنطقة دون هوادة حتى يومنا هذا. وعليه؛ فإن الاعتراف الجماعي الدولي بإمكانية استعمال البترول منخفض الانبعاثات هو مناسبة وفرصة يتوجب انتهازها في الدول العربية.