الصورة من آخر مقابلة متلفزة أُجريت مع العقيد القذافي. في تلك المقابلة لفت انتباه القذّافي "الشال الأحمر" الذي أرتديه. أمسك القذافي بطرف الشال وحكّه بأصابعه، ثم سألني عن نوع خامته. فأجبته: نجفي. فأجاب آآآآه من النجف.. "وبر ابل" يعني. ولماذا اخترت اللون الأحمر. ودون إعطائي فرصة لإجابته استطرد قائلاً.. لون الدم.
بعد هذه المقابلة ثارت الأسئلة بين أنصار العقيد. ومع ظهوري الإعلامي المتكرر حول الأزمة الليبية وقتذاك، تكاثرت الاستفسارات علي حول الشال الأحمر ورمزيته، تماماً كما تكاثرت الشكوك. واكتسب الشال الأحمر شهرة، وبات محل تندر بين الأصدقاء والمتابعين حتى من غير الليبيين. حتى وصل الأمر ببعض المراقبين والأصدقاء ليقرنوا اسمي بالشال الأحمر ويتخذوا منه اسماً كوديا لي.
والطريف أن البعض اعتبرني من إحدى الجماعات الصوفية وخصوصاً النقشبندية. والحقيقة أني لم أدرك يومها الرابط بين الشال الأحمر والنقشبندية، رغم أني لمست تأييداً وتشجيعاً لي كإعلامي، كما وسمعت أدعية بالخير والتوفيق من بعض رجال الصوفية النقشبندية، لكن من دون أن يشيروا إلى "الشال الأحمر".
ما يمكنني التأكيد عليه أن اللون الأحمر كان يعني للقذّافي الكثير، بدليل "المنديل الأحمر" الذي كان يحمله الرجل ويمسح به جبينه بشكل متكرر وملحوظ للعيان. كما بلغني من أحد أتباع الطريقة النقشبندية في ليبيا وهو من الدائرين في فلك العقيد، ترجيحه أن القذّافي كان نقشبندياً صوفياً.
لا جدال في صوفيّة القذّافي، بدليل زهده وتقشفه، وتعبده الدائم في الصحراء، كما وفي اصطحابه خلال رحلاته الداخلية والخارجية لبعض المتصوّفة. لكن الدليل الأكثر صرامة على تصوّف القذّافي كان في رفضه لحركات الإخوان والإسلام السياسي عامة التي تستخدم الدين لغايات سياسية.
رفض عبارة عن معارك متعددة، اختتمت بمهادنة ومصالحة عبر نجل القذّافي سيف الاسلام بعد "المراجعات" التي ادعاها الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة وبعض الرموز السلفية من صلابيي ليبيا وصاليبها بإشراف الشيخ علي الصلّابي وختمه وتوقيعه. ليتبين لاحقاً أن "المراجعات" لم تكن إلّا "عبوة موقوتة" ومحمولة على متن البوارج الأطلسية التي أدارت محركاتها ورادارتها بعيد زيارة باراك أوباما إلى مصر وخطابه الشهير في جامعة القاهرة والذي استهله بشفرة "السلام عليكم"، وبقية القصة معروفة.
في عشريته الأخيرة من قيادته ليبيا، أرسى القذّافي تقليداً سنوياً تمثل في إحياء عيد المولد النبوي الشريف في إحدى العواصم والمدن الإفريقية، وقد تسنّى لكاتب هذه السطور مرافقة القذافي وتغطية وقائع بعض هذه المناسبات الدينية من أغاديز في النيجر، إلى تمبكتو في مالي، إلى نواكشوط عاصمة موريتانيا وكمبالا عاصمة أوغندا (والتي اختطف فيها شاب أوغندي صغير هاتفي واختفى به عبر الجموع المتشابهة في بشرتها السمراء الداكنة أثناء عودتنا عبر شارع مكتظ مرورياً إلى المطار)، والتي كان يحضرها لفيف من رؤساء الدول العربية والإفريقية، لكنها لطالما كانت تتميّز بحشود نوعية من رجال الصوفيّة وأئمة وخطباء ووعّاظ المساجد والعلماء في إفريقيا وحول العالم.
وبالعودة لكواليس اللقاء المتلفز الأخير مع القذّافي، وتعليقه على الشال الأحمر بفراسة البدوي الثاقبة "نهر الدم". فيومها لم أحسب أن هذا البدوي في تلك الدردشة التي أعقبت تلك المقابلة في الخيمة الشهيرة، عنى أنّ رمال الصحراء الليبية ستتخضب بالدم. لكن وقائع "العشرية الحمراء" التي انطلقت بعد ثمانية أشهر من عدوان الناتو الذي انتهى بقتله ورفاقه في الرتل الشهير، بيّنت كم أنّ القذّافي كان مستشرفاً بوضوح لتضاريس نهر الدم ومتفرعاته وهو يشق طريقه في ليبيا مدينة مدينة، زنقة زنقة، دار دار، بصورة لم يسبق نهر الدم هذا إليها زمن جماهيرية العقيد، إلا "النهر الصناعي العظيم" الذي حوّل الكثير من صحاري ليبيا إلى واحات خضراء، كما بات الليبيون يشربون بدل المياه المالحة، الماء الزلال.
ثم طاردتني الأسئلة حول رمزية الشال الأحمر والأسرار والرسائل التي تكتفنه، لاسيما أن اللون الأحمر ليس مما يعتمده الرجال عامة خصوصاً في البلاد العربية صحراوية كانت أم حضرية. والحقيقة أني وجدت نفسي مدفوعاً بالتحفظ طويلاً عن إعطاء تفسيري لسبب اختياري للشال الأحمر، لاسيما أن غالبية طارحي الأسئلة كانوا يستبطنون من ورائها، معرفة حقيقة الأحاديث والتواصلات التي استمرت بين الشال الأحمر اللبناني مع العقيد ودائرته اللصيقة والشهيدة حتى أيامه الأخيرة في حي رقم 2 بمدينة سرت.
عشر سنوات على رحيل الرجل المثير بكل معاني الإثارة والتشويق لما هو أبعد من الجدل السياسي والإعلامي، بيّنت وكأنّ ليبيا دفنت مع القذّافي في قبره المجهول. كما بيّنت أن بنيان "الاتحاد الإفريقي" قد بهت بريقه وتبخّرت مشروعاته الطموحة في الحكومة الاتحادية، والعملة الذهبية، كما وفقد الكثير من وزنه القارّي والدولي. وأن التصدّع والتفكك نال من "تجمع دول الساحل والصحراء"، وأنّ المواطنين العرب باتوا في ظل النيوليبرالية الجديدة التي أوقدت النار في بلاد العرب باسم الثورات المسمومة والمشؤومة والتي لم تنتج سوى تغوّلا للأتراك والفرس معاً، باتوا يحنّون لكلمة "طز" التي لطالما كان القذافي يقذفها في وجه الغرب عامة والإدارات الأميركية خاصة، باستثناء كوندوليزا رايس صاحبة نظريات الفوضى الخلّاقة على وجه الخصوص.
عشر سنوات، وشرائح واسعة من الشعب الليبي، تعيش محناً أعاصيرية قتلاً وتهجيراً وشتاتاً وفساداً وإفساداً، في لحظة تتغوّل فيها الميليشيات على الدولة وتقوّض مداميكها. وبات الليبيون يتسوّلون سلامهم وسيادتهم وإعادة إعمار بلادهم من منصّات "الحوار الإنساني" وغيره من آليات القوّة الناعمة للأساطيل والبوارج الأجنبية التي دمّرت الدولة الليبية وبناها التحتية والفوقية بحجّة ظاهرها "حماية المدنيين"، وباطنها كما بيّنت العشرية الحمراء أطماع القوى الإقليمية والدولية المعروفة وتنافسها في إجراء "حصر إرث" لثروات ليبيا، فضلاً عن ترسيم مناطق النفوذ فيها، وانطلاقاً منها فيما حولها.
عشر سنوات، والشعب الليبي، يطل على مرحلة جديدة عبر الانتخابات علّها تصحّح انحرافات المسارات السياسية والاقتصادية ما يمنع انزلاق ليبيا وعودتها إلى زمن ما قبل الأقاليم الثلاث. ربما حان وقت انتهاء مفعول حقنة "حماية المدنيين"، واستدراك الليبيين أن حمايتهم الحقيقية هي في وحدتهم، وأن وحدتهم هي الخلاص من مقاصّة القوى الإقليمية والدولية التي لا يهمّها من ليبيا إلّا ثرواتها المجمّدة والمسيّلة، ومخزوناتها الطاقوية والمنجمية.
ربما، نقول ربما، خارطة طريق الليبيين باتجاه الوحدة الوطنية الأصيلة، وإعادة بناء ليبيا الجديدة، تبدأ من ذات المكان الذي دفنت فيه بتاريخ 20/11/2011 مع العقيد القذّافي وابنه المعتصم بالله ورفيقه أبو بكر يونس جابر في ذاك القبر المجهول. ويرجّح أن استلام قبيلة القذاذفة وقبيلة المجابرة لجثامين رموزهم الكبيرة تشكل الخطوة الحقيقية الحاسمة في انطلاق قاطرة المصالحات والمسامحات وتضميد الجراح الغائرة وجبر الضرر حتى يعمّ السلام ويجفّ شلّال الدم الأحمر.