بقلم يوسف الديني
بغض النظر عن مآلات الاحتجاجات الإيرانية اليوم، إلا من المهم قراءتها في سياق مختلف عن سابقاتها منذ الثورة الخمينية التي كانت أول صدامتها أيضاً مظاهرة برسم ملف المرأة الظاهرة الأكثر تأثيراً في التحولات بالمنطقة من هدى شعراوي إلى مهسا أميني التي كانت ضحية صلف ملالي طهران ومؤسساتها المؤدلجة.
المختلف في مظاهرات اليوم هو أنها ليست انشقاق كتل سياسية صلبة وأحزاب منظمة أو معارضين للنظام، بل هي روح شبابية رافضة أكبر من السياق التقليدي للخلاف بين الإصلاحيين والسياسيين خارج إيران.
المسألة الثانية، أن موجة الاحتجاجات هذه المرة ومنذ بداياتها منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي طرحت تحديات أمنية وسياسية على مفهوم الجمهورية والمبادئ التأسيسية لهويّتها القائمة على الثورة وتصديرها، فالمسألة تتجاوز الاحتجاج على نظام سياسي أو إدارة أو مجموعة من القادة إلى محاولة القطيعة مع فكرة الثورة وهويّتها ومؤسساتها المعبرة عن تلك الهويّة وأبرزها (كشت إرشاد) شرطة الآداب، ومن هنا مفارقة هذه الاحتجاجات الهوياتية إن صحت التسمية على الاحتجاجات السياسية في عام 2009 على خلفية اتهامات التزوير أو الاحتجاجات الاقتصادية عام 2019 والتي جاءت بسبب ارتفاع أسعار البنزين وصلف «الحرس الثوري» الذي استخدم أقصى درجات القمع آنذاك وتجاوز الضحايا الآلاف من الشعب الإيراني.
الاحتجاجات على أسلوب الحياة ونمط العيش والحد الأدنى من الحريات والكرامة مختلف تماماً عن السياقات السياسية والاقتصادية أو ردات الفعل تجاه مقتل شاب أو فتاة، اليوم يعيش أغلب فئات الشباب الإيراني حالة من القطيعة مع هويّة النظام القائمة على أسلمة مؤدلجة لكل مناحي الحياة بما لا يتفق الجمهور العريض خارج أنصار الملالي، لكن هذا أيضاً لا يتقاطع مع بقاء القومية الإيرانية التي يعبّر عنها من في الخارج وأحياناً يستخدمونها للوقوف مع الملالي ضد الغرب والعالم.
كل التوقعات حول هذه الاحتجاجات ومآلاتها نسبية ومحتملة، لكن الأكيد أنها مفارقة لما سبقها، ومن ذلك غياب الكتلة الدينية الإصلاحية أو المعتدلة عن الاحتجاجات واقتصارها على الشباب، وهو ما فسره الخبير مهدي خلجي من معهد واشنطن للسياسات بأن القطيعة هذه المرة أكثر شمولية وحدّة من سابقاتها، حيث جميع الملالي مدانون بغض النظر عن قناعاتهم حول النظام أو انتمائهم إلى تيار الحمائم أو الصقور، فالتراتيبية أو هياكل التشريعات في ملف المرأة بالنسبة لهم جزء من مبررات القمع تجاه الجيل الجديد والمرأة بشكل أخص.
هناك خصوصية جوهرية في الحالة الإيرانية تبدو غائبة في قراءة ما يحدث من احتجاجات غير مسبوقة كماً ونوعاً، وحتى على المستوى الجهوي - المناطقي، وطبيعة الخلفية السوسيولوجية للناقمين على إخفاقات نظام الملالي المؤدلج والقمعي الذي لم يعد يحتمله الإيرانيون.
الدفاع عن إيران خارج أقواس الملالي هو أهم ما يميز هوية الاحتجاجات الأخيرة، وحتى الكلمات والشعارات والرموز وطقوس التمرد في المظاهرات، وقد كتبت العديد من المقالات والتحليلات خلال الأيام الأخيرة، تشير إلى أن القومية الإيرانية يقظة باعتبارها امتداداً تاريخياً، وأن المحتجين يعتبرون لحظة الثورة والملالي فجوة في ذلك الامتداد للثقافة الفارسية، ومن هنا فالاحتجاجات ليست على سوء الأحوال بقدر أنها ضد سلطة وهيمنة آيديولوجية القمع وشعارات التمييز وادعاءات امتلاك الحقيقة، وهو قريب مما عاشه العالم السني في الاحتجاجات والثورات التصحيحية عقب صعود الإسلام السياسي إلى السلطة واحتكاره لها وتركيزه على مسألة «الهوية البديلة».
على مستوى آخر جهوي، فالاحتجاجات امتدت لكل مناطق إيران ولم تقتصر على العاصمة أو المناطق ذات الامتداد أو الأكثرية المدنية، وهو ما يعني وجود حالة من الشعور بالفشل وعبء نظام الملالي، وهو فيما يمكن أن يقرأ محاولة للاستفادة من المناخ العام في المنطقة والعالم الذي يتجه نحو المصالحة والتحديث والتوازن في ملفات الهوية والمرأة.
ربما لا تكون المآلات لما يحدث في إيران كبيرة كما أن ربط هذه الاحتجاجات بمستوى تهديدها للنظام و«الحرس الثوري» ليس واقعياً، ومن المهم أن نميز هنا بين الاستثمار في فشل مشروع إيران والملالي الذي يمكن أن يكون عبر تعرية خطابهم وشعاراتهم وازدواجية المعايير وبين الذهاب بعيداً في سقف التوقعات.
اليوم مأزق الداخل الإيراني خصوصاً جيل الشباب مع هويّة النظام التي لا تتناسب مع منطق الحياة والمستقبل، وهو الشيء ذاته الذي تعاني منه دول المنطقة مع مشروع الملالي وتحاول أن تنبه القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا يهم أن يفاوض حمائم طهران ببدلات أنيقة من دون ربطة عنق لمحاولة استعادة الشرعية في الخارج ما دام أن الصقور في الداخل من أعضاء «الحرس الثوري» ومنظماته ومؤسساته يكافحون للحفاظ على وجه الدولة الثوري وسلوكها القمعي مهددين للسلم الاجتماعي في الداخل وللسلم الإقليمي والدولي في الخارج.
السقوط الفعلي لنظام ملالي طهران مرهون بعوامل كثيرة أبعد من احتجاجات الداخل، لكن سقوط الشرعية والتداعي الرمزي لهوية وأقنعة النظام يحدث الآن أمام مرأى ومسمع العالم بأسره.