بقلم - يوسف الديني
في كل مرة يتجدد استهداف السعودية التي تحتلّ موقع الصدارة في قيادة العالم الإسلامي، تولد أسئلة محورية على تجددّ ذلك الاستهداف عبر ملفات وقضايا صغيرة وأوراق خاسرة يتم طرحها على طاولة الاستهداف وآلة الإعلام الضخمة التي تمتد من إعلام دول إلى مرتزقة ومنتفعين يتم الزجّ بهم كخبراء في شؤون المنطقة، إلا أن الأسئلة لا يمكن أن تقود إلى تصورات وإجابات واضحة عن طبيعة الاستهداف وتوقيته واستمراره مع كل قفزة للسعودية تتجاوز بها تلك الملفات بكفاءة عالية منذ تدشين «رؤية 2030» التي ينال عرابها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التركيز بسبب أنه منذ الظهور الأول سمّى الأشياء بأسمائها ووسع نطاق الحرب على الإرهاب لتشمل الحرب على الفساد وشبكات التمويل ومحاسبة المسؤولين والنزاهة الحكومية، وصولاً إلى فتح كل الملفات الداخلية والخارجية بصراحة تامّة، لكن الإنجاز الأكبر الذي أيقظ خفافيش الاستهداف من مكامنها المعتمة كان بلا شك نقد مشاريع الهيمنة عبر الاستثمار في التنظيمات الإرهابية والآيديولوجيات العابرة للقارات، خصوصاً الإسلام السياسي متمثلاً في جماعة «الإخوان المسلمين» وتجلياتها وفروعها، وصولاً إلى تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي ليس في السعودية فحسب ولكن في أربع دول عانت كثيراً من ذلك الاستثمار الذي تقوده دول ربطت مصيرها بمصير التنظيم الدولي العابر للقارات؛ من نظام إردوغان الساعي للهيمنة ومحاولة العبث بالأوزان السياسية والتاريخ في قيادة العالم السني مدفوعاً بمقامرة نظام الدوحة الذي حول مقدرات الشعب القطري وخيراته إلى مصدر جباية لنظام إردوغان ولقائمة تطول من التنظيمات والتيارات والشخصيات الاعتبارية التي يتم الاستثمار فيها في محاولة ليس للنيل من مكانة المملكة، فذلك أمر بعيد المنال، لكن على الأقل التشغيب على مشروع ورؤية ولي العهد السعودي الذي نكأ جراح المؤدلجين.
في مقابلة مهمة لأحد أهم الباحثين الأتراك في المجال السياسي، سولي أوزيل محاضر أول في جامعة قادر هاس بإسطنبول وأحد الأصوات الرائجة في التحليل السياسي في عدد من الجامعات الغربية كجورج تاون وهارفارد وكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية، تحدث بصراحة عن المشروع الإردوغاني من دون مواربة، مؤكداً أن سعي إردوغان قديم حتى قبل انتقال تركيا إلى اعتماد نظام رئاسي، إلى تحويل أنقرة إلى قوة إقليمية مُهيمنة ذات امتداد عالمي.
ورغم قدم تطلعات تركيا الاستراتيجية في الهيمنة شأن الدول التي تسعى إلى تضخيم وزنها السياسي لمعالجة أزماتها الداخلية، فإن تركيا، وهو ما يؤكده أيضاً أوزيل، اتجهت نحو اختطاف مفهوم الإسلام وتكريس آيديولوجيا الإسلام السياسي في محاولة للاستفادة من مقارعة السعودية وانتزاع ريادتها. هذا الاستبدال من خلال اللعب بورقة الهويّات الإسلامية والعبث بالتاريخ في محاولة لاستعادة الخلافة كان انقلاباً على الفلسفة الأوراسية التي كان الأتراك عادة يميلون فيها إلى ممارسة القوة وإنشاء القواعد العسكرية وتعزيز الحقوق البحرية أو ما كانت تعرف بحسب أوزيل «عقيدة الوطن الأزرق» التي طورها ضباط قوميون علمانيون أتراك، لكن نظام إردوغان أضاف عليها بناء مشروع آيديولوجي إسلاموي استفاد من هزائم «الإخوان» وأحلافهم في الربيع العربي كما استثمر في خروج الجماعة الأم من المشهد العربي في محاولة الاستفادة من أنقاض تجربتهم السياسية وتحويلها إلى وقود لبناء معارضات وشبكات داخل أوطانهم، ومن هنا جاء التركيز على دول الخليج ومصر في سعي للتنافس الجيوسياسي والآيديولوجي على قيادة العالم السنّي كمشروع يتسق مع محاولات ملالي طهران على ذات الأهداف ولكن بقدرة أقل بحكم المسألة الطائفية وتداعياتها.
تحول إردوغان إلى محارب لإخفاقات التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة وآيديولوجيات الإسلام السياسي، ليس إلا واجهة لمشروع الهيمنة، خصوصاً في طوره الأخير الذي قاده على التركيز على ليبيا في ظل ارتباك أميركي نابع من تحولات ضخمة في مقاربة الولايات المتحدة للسياسة الخارجية ما بعد ترمب وانتهاج سياسات الإرغام عن بعد والضغوط الاقتصادية والانسحاب العسكري في محاولة لتقليل الخسائر العسكرية.
ومع إخفاقات إردوغان المتكررة في تدخلاته العسكرية في سوريا واليقظة لتداعيات تهوره الخطير في ليبيا وإن بشكل براغماتي من الدول الأوروبية، عاد إلى ممارسة اللعب بورقة الهويّة الدينية مجدداً بعد أن أخفق الإعلام الموازي لمشروعه في الدوحة و«الجزيرة» التي تخصص كل مواردها وطاقاتها في محاولات استهداف السعودية على نحو بات يزعج حتى من كان من أنصار «الرأي الآخر» في استهداف موسم الحج الذي اتخذت فيه السعودية قرارات شجاعة ما بعد جائحة «كورونا»، فكان القرار الإردوغاني هو تحويل آيا صوفيا إلى مسجد والذي وصفه أوزيل الباحث التركي بأنه يأتي في سعي إردوغان لقيادة العالم السني وفي إشارة ذكية إلى اللعب على الشعارات والعاطفة الدينية لم يفوت الإشارة إلى فروقات الإعلان عن خطوة آيا صوفيا الاستعراضية بالنسبة العربية والتي فيها إشارة إلى تحرير المسجد الأقصى، وهو الأمر الذي حاول أنصار إردوغان وشبكات الولاء له وللإسلام السياسي العابرة للقارات أن تكرّس كل مواردها على شبكة الإنترنت لتسويق المشروع الاستفزازي على نحو مقارب لداعيات التنظيمات الإرهابية في منشوراتها الترويجية عن عودة الخلافة والأمجاد التليدة.
صراع الهيمنة واللعب بالورقة الدينية وإن بدا مبتذلاً جداً في ظل وجود عوائق كبيرة على مستوى الجغرافيا والتاريخ والمكانة التي تحتلها المملكة، خصوصاً أنها تسعى إلى رفد نجاحاتها في أعظم مهماتها بحسب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وهي شرف رعاية الحرمين الشريفين والوقوف مع قضايا المسلمين في العالم، إلا أن العائق الأكبر هو تناقضات الاستثمار في الورقة الدينية، خصوصاً مع موقف إردوغان وصمته الذي يقترب من حدود الهلع من أي تعليق بشأن مسألة «الأويغور» مع الصين أو فيما يخص تناقضات الشعارات المرفوعة في قضية فلسطين رغم العلاقات الدبلوماسية الممتازة بين تركيا وإسرائيل التي يدرك مسؤولها أن نصرة الأقصى مجرد شعارات لفظية لن تفضي إلى شيء.
الرهان الحقيقي على مشاريع الهيمنة في المنطقة ليس على الاستهداف أو ترحيل الأزمات كما يفعل ملالي طهران ونظام إردوغان أو تجاهل الأوزان السياسية للدول كما تستميت الدوحة، وإنما في تجاوز كل التحديّات والإصرار على الاستثمار في المواطن والسعي إلى النجاحات الاقتصادية ودولة الرفاه المستقرة من دون ادعاء للكمال أو تشدّق بالشعارات.