بقلم - يوسف الديني
التحديات التي فرضتها جائحة «كورونا» على دول العالم فاقت التوقعات، وما زالت مستمرة ومرشحة للبقاء حتى بعد الوصول إلى حلول علاجيّة، حيث النقاهة السياسية والاقتصادية من أعباء الجائحة سيطول أمدها بحسب عوامل تتصل بحالة الدولة على مستوى أداء المؤسسات، وإدارة الأزمات والمسؤولية تجاه المواطنين، وهو ما يعني من وجه آخر بقاء صعود نجم مركزية السلطة في مقابل الديمقراطيات الهشّة أو الشكلانية، فجائحة «كورونا» كشفت عن انفصال وفجوة هائلة بين مفهوم النظام والدولة أكثر من أي وقت مضى، وفتحت شلالاً من الأسئلة والمراجعات النقدية في مراكز الأبحاث وخزانات التفكير حول مفاهيم جديدة لمعنى «الدولة» وعلاقتها بالأزمات ومسؤولياتها بسبب حالة الإخفاق التي طالت العديد من الدول، التي ظلت محظيّة بالإعجاب بسبب التعددية السياسية، لكنها باتت اليوم تحت طائلة الضغوطات الهائلة داخلياً وخارجياً بسبب هشاشة المؤسسات، وإدارة الأزمة، فضلاً عن جنوحها إلى المزيد من التشريعات والسياسات لاستعادة جزء من مركزية الدولة العامل الأهم في حالة الاستقرار ما بعد جائحة «كورونا»، بعيداً عن كل شعارات وأدبيات «هجاء الدولة» التي لم تعد إلا للاستهلاك الإعلامي أو الصراعات الحزبية للتنافس على السلطة مجدداً، وصولاً إلى استخدامها المبتذل من قبل المعارضات السياسية.
وإذا كانت سهام هذا النقد باتت تطال كبريات الديمقراطيات العريقة التي لم تداع بنية مؤسساتها وانكشفت مع الأزمة؛ فإن الوضع يقترب من حدود المأساة والكارثيّة في النماذج العربية الصاعدة، ما بعد ما كان يسمّى «الربيع العربي» والتي تغرق في دوامة النزاعات السياسية الحزبية بشكل انتهازي بات يستغل كل الأزمات الاقتصادية والجوائح والأوبئة لصالح الآيديولوجيا التي ينتمي إليها، إلى الحد الذي بدأت تتعالى أصوات عاقلة حدَّ اليأس، إلى موجة ما تصفه التقارير الغربية بتذاكي لا يخلو من انتهازية «تمنّي عودة الديكتاتور».
والحال أن هذه الموجة هي جزء من إعادة تقييم وفصل المقال بين مفهوم النظام والدولة وصعود المركزية والسلطوية العقلانية والحازمة، والتي عادة ما تعبّر عنها السياقات الغربية بصعود نجم «التجربة الصينية» كجزء من حالة الهلع في الغرب من «تصيين العالم» المحتمل وبمبالغات عادة ما يطلقها خصوم الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية والمنافسون، فالتلويح بصعود الصين يستبعد نجاحاتها ويركز على غياب التعددية السياسية، وهو ذات الشيء الذي تعاني منه دول الخليج والدول العربية المستقرة الناجية من طوفان وفوضى الرضات الثوروية، وصعود الآيديولوجيات على حساب منطق الدولة، خصوصاً مع تحالف اليسار والإسلام السياسي في فترة الربيع العربي، وما سبب ذلك من فوضى عارمة.
أبانت جائحة «كورونا» وتعامل السعودية معها على سبيل المثال عن نموذج على قدر عال من التفوّق المؤسساتي، المدعوم بحزمة وطنية متقدمة من التطبيقات الرقمية، والحلول المبتكرة وحملات توعوية مجتمعية رغم حالات الممانعة الأولوية التي تعدّ أمراً بديهياً في الأزمات، إلا أن المجتمع لاحقاً كان المبادر إلى الاستجابة في أغلبيته الساحقة في تقبّل الإجراءات الاحترازية، وهو مؤشر صحي على منسوب الإيمان بالدولة وفضيلة الاستقرار.
التبكير والمبادرة في أخذ زمام تكريس منطق الدولة في إدارة الأزمات، كان نقطة فاصلة في التعامل المسؤول من قبل الدول التي سارعت إلى تجنيب البلاد والعباد تبعات الجوائح والأوبئة الاقتصادية، وأعباء الضغط على المؤسسات الصحية والأمنية، وهو ما ليس له علاقة بطبيعة النظام السياسي أو التحديات الاقتصادية وتحولات السوق بسبب تراجع قطاعات خدماتية كبرى، والتي جعلت من بعض الدول تتلكأ في تغليب منطق الدولة، خصوصاً في المرحلة المبكرة من الإعلان عن الحالات الأولى للوباء، والتردد في إعلان قيود السفر، وإصرار السلطات المحلية بضغط من السوق بقاء عمل خطوط النقل.
والحال أن أهم تأثيرات «كورونا» تراجع التأثير للتدخل السيادي على الدول، مع تراجع مستوى العولمة السياسية المماثلة لعولمات بدأت في التلاشي، فالتدخل السياسي الذي تجاوز سابقاً حدود الدول الكبرى إلى مجموعة من المنظمات والمؤسسات التي باتت تشكل تهديداً متنامياً بأقنعة وشعارات لا خلاف على مضامينها وإنما في تطبيقاتها، وقد رأينا منذ موجات الربيع العربي تحول شرارة تهديد «فضيلة الاستقرار» الذي بات يشكل اليوم أولوية كبرى، حتى لدى عدد من الدول الغربية التي لا يمكن المزايدة عليها حتى ما قبل جائحة «كورونا»، كلنا نتذكر درس باريس والسترات الصفراء الذي مسّ مهد الثورة التي قلبت وجه العالم، والتي عانت في فترات ما من تضخم في منسوب تلك القيم، لكنها راجعت وتراجع اليوم أولوية الاستقرار والدخول في الأسواق العالمية والاقتصاد، على حساب ما قد يمسّ هوية جمهوريتها مع «السترات الصفراء» التي تضيف إلى النقد المتصاعد لفلاسفة السياسة المستمر لمفاهيم وحدود علاقة السلطة والدولة بالديمقراطية والحريات وقيمها الأخرى، ومدى قدرة ذلك على تمثيل الأغلبية الصامتة، أو حتى الجماهير التي انتخبت وخاب أملها في نخبها التي لم توصل صوتها.
تراجع مؤسسات التنمية في العقود الماضية أسهم في حالة التسييس والتجهّم ضد سلطة الدولة وحدودها، فتعثر مسألة التنمية ودعم ما يحتاج إليه إنسان اليوم المصاب بإغراءات بورصات التسييس، أسهم في تراجع وضعية المراكز البحثية الكبرى، خصوصاً في المجال الطبي بسبب الدخول في نفق البيروقراطية والتكلس وعدم مواكبة المستجدات، ولأسباب تتعلق بالتمويل والإنفاق على هذا النوع من المراكز الاستشرافية.
التحدّي الذي تراهن عليه السعودية هو التمسّك بمنطق الدولة ضمن منظور «رؤيتها الإصلاحية 2030»، ومهندسها ولي العهد الأمير الذي يمضي بخطوات وثّابة في سباق الاستقرار ودولة الرفاه ومكافحة الفساد، وتكريس خطاب الاعتدال الديني، محققاً نجاحات كبيرة رغم التحديات، هذه الرؤية باتت مشروع السعوديين للعبور إلى المستقبل والتأثير في اقتصادات العالم الجديدة التي تتجاوز الاعتماد على قولبة السعودية كمنتج للنفط فحسب، فما اجترحته الرؤية رغم التحديات الكبيرة في طريقها، خصوصاً مع جائحة «كورونا» وتراجع الأسواق العالمية، هو أنها باتت تقتنص كل الفرص لبناء شراكات استراتيجية تصّب في صالح الاقتصاد الوطني، الذي تشير كل الأرقام الدولية إلى تعافيه بشكل متسارع، خصوصاً مع تأكيد السيادة على المستوى الخارجي والمساواة والخضوع لمنطق الدولة والقانون على الجميع «كائنا من كان»، كما صدح بها الأمير محمد في محفل الاقتصاد والاستثمار، ولم تكن شعاراً وقتياً قدر أنها إعلان لاستراتيجية عليا مستدامة.