لمّا وُلّي عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء، وأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينا هم كذلك يوماً وقد أزمعوا عَلَى الرحيل، إذ مرّ بهم رجاء بن حيوة، وكان من خطباء أهل الشام، فلما رآه جرير داخلًا قام إليه وأنشد أبياتاً منها:
يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مر بهم عدي بن أرطأة، فقال جرير أبياتاً آخرها قوله:
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن موطني
قال: فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك، وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي، ما لي وللشعراء؟! قال: أعز اللَّه أمير المؤمنين إن رسول الله قد امتُدح وأعطى، ولك في رسول الله أسوة، فقال: كيف؟
قال: امتدحه العباس السلمي، فأعطاه حُلة قطع بها لسانه، قال: أفتروي من قوله شيئًا؟ قال: نعم، فأنشدهُ من أبيات:
رأيتك يا خير البرية كلها نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدنساً وأطفأت بالإسلام ناراً تضرما
فقال: ويلك يا عدي، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن أبي ربيعة، قال: أوليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فمدت كعاباً طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها لي قالت ويلتى قد عجلت يا ابن الكرام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه لكان أستر له: لا يدخل عليّ والله أبداً، فمن بالباب سواه؟ قال: الفرزدق، فرد عليه: أليس هو الذي يقول:
هما دلتاني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره
لا يدخل علي والله أبداً، فمن سواه منهم؟ قال: جرير، فرد عليه بنفس الأسلوب: أليس هو القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل، فلما مثل بين يديه قال: يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقاً، فأنشد قصيدته الرائية المشهورة التي منها:
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما ترجو من المطر
جاء الخلافة أو كنت له قدراً كما أتى موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيرات من عمر