بقلم: مشعل السديري
توالت الأمطار الغزيرة على مكة المكرمة في المدة الأخيرة يومياً لما لا يقل عن شهر كامل، ويقول الراسخون في علم الحساب والأنواء، إنه لم يقع مثلها منذ (40) سنة.
غير أنني اطلعت على مذكرات حاج كتبها قبل (175) عاماً، عندما واجه السيل العرم في مكة، الذي شبهه (بيوم الحشر)، ويقول فيها:
أعتقد أن الطوفان قد وقع في اليوم الثامن من الحج، بعد سبعة عشر عاماً من آخر زيارة لي إليها، حيث ارتفعت المياه سبع أقدام في الحرم، وكانت السماء هذه المرة سوداء قاتمة من جهة الشرق، وكانت السحب سديمية دخانية، وكما لاحظت سابقاً فهي من النوع الذي يتبعه هطول مطر غزير، شهدت تلك الأيام تغيّراً كبيراً عن لون السماء الأزرق لتصطبغ بالأسود القاتم كالفحم.
وخرج بعض من جماعتنا لإلقاء نظرة، وبقيت أنا مع الباقين، وإذا بمنسوب المياه يرتفع عالياً بشكل مفاجئ دون أن يترك لنا مجالاً لأخذ احتياطاتنا، وقد وصفها أولئك الذين رأوا المياه الآتية من صوب منى بأمواج عاتية، كأنها تسيل الآن في مجارٍ طينية بعمق ثلاث أو أربع أقدام عبر كل الشوارع.
ويرتفع أمام كل من مداخل الحرم حاجز حجري، من الواضح أنه مبني لغرض منع المياه من الدخول في ظروف كذلك الطوفان، ولكن هيهات من (صدّه أو ردّه)، وقد اتخذت لي موضعاً فوق أحد تلك الحواجز أرقب السيل العرم الذي يجرف في طريقه ركام الأسواق وأقفاص الدجاج وكافة أصناف الفاكهة والخبز والسلال الفارغة، ودعائم وأسقف الأكشاك الخشبية، بالإضافة إلى الكلاب التي تراها تسبح هنا وهناك، والتي يرجعها التيار القهقرى، لتلقى مصيرها.
وبعد ثلاثة أيام من الطوفان بدا لي أن عدد الوفيات في ازدياد مطّرد، وبعد ذلك بعشرة أيام، أصبح عدد الجنائز التي تمرّ بالحرم كبيراً إلى درجة بات معها حدثاً يومياً، لدرجة أنني عددت في يوم واحد: (263) جنازة - وأغلبهم ماتوا غرقاً في الحرم لأنهم لا يجيدون السباحة.
إن تلك الأعداد المتزايدة لا تنم إلا عن كون غالبية المتوفين لا أصدقاء لهم، أو أنهم لا يستحقون عناء حملهم إلى الكعبة مروراً بالطريق إلى المقبرة، كان يمكن رؤية الرجال المصابين بالكوليرا مستلقين على أطراف الشوارع، دون أن يمرّ بهم سامري طيب، أما بالنسبة للمصابين بالحصبة والتيفوئيد في كافة مراحل المرض - (فحدثوا ولا حرج) -.
رحم الله أستاذنا (ضياء الدين رجب)، الذي إذا هزّه الرعب يوماً يصيح قائلاً: «يا أمان الخائفين».