يوحى عنوان (اللعب مع العيال) أننا بصدد وجه آخر للفيلم الشهير (اللعب مع الكبار) 1991، على طريقة (البارودى)، التى تعنى تقديم حالة تتناقض تماما مع الأصل، الفيلم الراسخ فى الأذهان، تأليف وحيد حامد إخراج شريف عرفة، قد تعتقد أن شريف يتكئ على فيلمه القديم لينطلق بعد أكثر من 30 عاما، من الأب عادل إمام إلى الابن محمد إمام، إلا أن شريف يسارع على الشاشة بتغيير هذا الانطباع المبدئى، وإعادة توجيه المؤشر، فلا صلة قربى أو نسب درامى أو سياسى بين الفيلمين، المقصود بالعيال ليس مجازيا، ولكن الأبطال بالفعل أطفال، واللعب هو حقا لعب حقيقى مع الأطفال، وهم بالمناسبة يشكلون ملمحا خاصا بقدر ما هو مضىء فى الفيلم.
السيناريو كتبه شريف عرفة بروح أقرب إلى فن (الكوميكس)، الكاريكاتير المصور والمجسم الذى يقدم الملامح بقدر من المبالغة، يغلفها بالسخرية، وهو ما يحقق رواجا عند شريحة الأطفال، وأيضا الكبار الذين لا تزال تسكنهم مشاعر الطفولة، تلك هى الروح التى سيطرت على الفيلم، وهكذا سقطت المسافة تماما بين السيناريو المكتوب على الورق، والفيلم على الشاشة، وتلك التفاصيل من المستحيل أن يقدمها إلا المخرج على الشاشة، الأمر ليس له علاقة باحتراف كتابة السيناريو بقدر ما هو حالة حتمية فرضها الشريط السينمائى.
شريف مارس الكتابة أو المشاركة فيها، فى عدد من الأفلام، حتى لو لم تجد اسمه على (التتر) ككاتب، تستطيع أن تدرك أنه حاضر دراميا فى كل التفاصيل، بينما فى (اللعب مع العيال) فهو تعبير مباشر عن عالم أراد شريف تقديمه على الشاشة برؤية خاصة فكان ينبغى أن يصبح هو كاتب هذا العالم بكل شطحاته وومضاته، الشخصيات كلها مرسومة بتلك الرؤية، التى تعيش على شاطئ الطفولة، فكان لا بد مثلا من حضور (ويزو) بتلك الملامح الصارخة فى الوزن والحركات، كما تعودنا عليها، لأنها تشكل جزءا عميقا من الحالة التى يسردها المخرج، حيث إن العين تتلقى أولا الحالة، كما أنك تتعايش مع محمد إمام بتلك الشخصية بكل مخاوفها وترددها، وضوح الملامح بكل أبعادها الشكلية والحركية والنفسية واحدة من أسلحة المخرج للدخول بعمق فى قانون الفيلم الذى يفرضه الطفل، كمستقبل لهذه الرسالة، وعلى أساسها يحدد بنود التعاقد مع المخرج.
منذ بدايات شريف عرفة فى نهاية الثمانينيات مع فيلم (الأقزام قادمون) وأنا أتابع فنانا لديه خصوصية فى التعبير، كثيرا ما كان يشعرنى فى عدد من أفلامه وكأنه يعود طفلا، وقتها كان يشكل ثنائيا مع الكاتب ماهر عواد، الذى قرر أن يكون فقط نفسه، واستمر الاثنان معا ثلاثة أفلام أخرى، (الدرجة الثالثة) و(سمع هس) (يا مهلبية يا)، شىء عميق وحميم يجمع بين هذه الأفلام، يبدأ بخصوصية وبراءة التعبير، بعد ذلك فى مرحلة لاحقة وتحديدا مع وحيد حامد وعادل إمام التى بدأت مع (اللعب مع الكبار) لم يغادره تماما الطفل، ولكن كان لديه هدف أبعد فكريا، استلزم نوعا آخر من التعبير على الشاشة، يرنو إلى رؤية تدعوك بقوة للاشتباك مع الواقع السياسى. أفلام البدايات لم يؤازرها شباك التذاكر إلا أن المخرج الكبير خيرى بشارة فى عز الهجوم على شريف لم يكتف بالدفاع عنه فى أحاديث صحفية، بل كتب مقالا يدشن فيه بالسينما الجديدة ورائدها شريف عرفة.
شريف فى السنوات الأخيرة يريد العودة مجددا وبنبض عصرى لتلك المرحلة الأولى، أرى مثلا أن فيلم (الإنس والنمس) 2021 الذى كتب له شريف القصة السينمائية، يقترب فى مزاجه الفنى إلى تلك الروح.
بينما فى (اللعب مع العيال) توافق تماما مع تلك الرغبة، انفرد بالكتابة، ليظل ممسكا بكل التفاصيل معبرا عن المشاعر الفطرية التى يرسمها أولا على الورق فى كل شخصياته، انتقل هذه المرة إلى مدينة (شرم الشيخ) مع مدرس التاريخ علام (محمد إمام) واختار عام 2010، وأتصورها الرقابة هى التى فرضت هذا الاختيار الزمنى، لأنها لا تريد لأفلامنا أن تتشابك ولا أقول تشتبك، مع الواقع الذى نعيشه، لا أتصورها بالمناسبة تعليمات مباشرة، بقدر ما هى واحدة من تنويعات (النفخ فى الزبادى) التى تمارسها الرقابة على المصنفات الفنية فى السنوات الأخيرة.
بمجرد أن ينتقل البطل إلى (شرم) تتجسد الصورة الذهنية التقليدية للبحر والنساء الجميلات بالمايوه البكينى إلا أننا على أرض الواقع نرى خرابة فى صحراء مترامية الأطراف يقولون عنها إنها مدرسة، والمطلوب من الأستاذ ليس تعليمهم فقط التاريخ تخصصه، ولكن أولا القراءة والكتابة.
من الشخصيات التى رسمها شريف بحرفية وإبداع المدرس الذى أداه باقتدار وحرفية ماجد الكدوانى، نستمع فقط إلى صوته متعدد التنويعات، وهو يروى مذكراته التى التقطها محمد إمام، فى بيته الذى يخاصم كل ما يمكن أن نعتبره من مقومات الحياة.
القانون الذى وضعه عرفة يتجسد أمامك فى كل الشخصيات مثل شيخ القبيلة بيومى فؤاد، الذى يتألق عندما يجد الدور الذى يحركه إبداعيا، فهو أيضا نموذج خاص جدا لشيخ القبيلة بكل المحددات التى تخلق مواقفها الدرامية، أيضا ابنة شيخ القبيلة الجميلة أسماء جلال، والمكياج الصارخ جزء من قانون اللعبة السينمائية، ليقع المدرس فى حبها.
الوجه الوطنى هو التاريخ، شخصية باسم سمرة الرافض لتصحيح التاريخ، لتلك المنطقة النائية على البحر الأحمر، التى هى جزء حميم من الوطن، خيالنا فقط لا يتجاوز شاطئ البحر الأحمر والمايوه، إلا أن شريف يضيف ملمحا سياسيا، رافضا الانعزال، ويمهد للذئب الذى كان يطارد فى البداية محمد إمام ليتدخل فى النهاية وينقذ محمد إمام قبل أن يطلق عليه باسم الرصاص.
حالة سينمائية خاصة وحميمة بكل تفاصيلها تبدأ بموسيقى مودى الإمام وتتواصل فى التصوير والمونتاج والديكور.
ولدينا مجموعة من الأطفال، يكمن فيهم السر، نجح شريف عرفة فى الحفاظ على تلقائيتهم أمام الكاميرا، وكانوا بالفعل هم أصحاب الابتسامات التى تخرج من القلب لتستقر فى القلب.
العمل الفنى، لا يقرأ من خارجه، ولكن كما أراده صانع العمل، الكوميديا الهادئة هى البطل الحقيقى للشريط، المخرج منح الفيلم حالة مزاجية واحدة ساهمت فيها كل العناصر، وقدم عددا من الممثلين الواعدين مثل مصطفى غريب إلا أنه لم يستغل دراميا، على عكس مثلا المخضرم سليمان عيد فى مشاهد قليلة والموهوب حجاج عبد العظيم، ونجحت أسماء جلال التى أثبتت جدارتها كبطلة قادمة فى السينما.
الشريط يلعب بقانون الضحكات الهادئة وهذا هو (الترمومتر)، ضحكات تشبه عالم الأطفال فى براءتها، وهكذا جاء التصريح من الرقابة على المصنفات الفنية بالعرض العام للفيلم.
من المشاهد التى قدمت بحرفية عالية مشهد الحلم المشترك، بين محمد إمام وأسماء جلال، كل منهما كان يحلم بالآخر وتم القطع المتوازى بينهما، وفى نفس الوقت حتى لا يجرح عالم الطفولة حرص المخرج على أن يظل الإيحاء هو سيد الموقف.
محمد إمام يتقدم بخطوات واثقة للمقدمة، بملامح خاصة فى التعبير، وما تراه على الشاشة من عادل إمام يدخل تحت إطار الجينات الوراثية، التى لا يمكن تجاوزها، ولكننا هذه المرة نرى فقط النجم محمد إمام، الذى يصنع لنفسه طريقا خاصا.
شريف عرفة يطل علينا وبراءة الأطفال فى عينية تتجسد فى كل التفاصيل على الشاشة!!.