بقلم:طارق الشناوي
بين الحين والآخر نقرأ عن حادث انتحار من (برج الجزيرة)، المطل على وسط القاهرة. شاب يصعد للطابق الـ16، ثم يعانق الهواء من أعلى المبني الذي يصل ارتفاعه إلى 187 متراً. آخر حادث تابعناه قبل نحو عشرة أيام، واكب حادث القتل البشع الذي رأينا فيه طالباً بكلية الآداب ينحر زميلته (نيرة) لأنها رفضت الزواج منه.
لم نتوقف كثيراً أمام انتحار هذا الشاب، لأن الرأي العام كان مشغولاً بمقتل نيرة، إلا أنه كثيراً ما يتكرر، مثلما نقرأ عمن ألقى بنفسه في نهر النيل، لأنه مثلاً أخفق في تحقيق مجموع في الثانوية العامة يؤهله لدخول الجامعة.
هل من الممكن درءاً للجريمة أن نوجه الاتهام للبرج أو للنهر؟!
شيء من هذا ألاحظه يتكرر في الإعلام، بعد أي حادث مروع نعيشه، حيث تتوجه على الفور سهام الغضب إلى الفن، خصوصاً الأعمال الدرامية العنيفة، وأيضاً أغاني المهرجانات؛ حمو بيكا وشاكوش وكسبرة وحنجرة و(أخواتهم)، وتكثر المطالبات بمصادرتها، مثلما حدث بعد مقتل نيرة.
نوع من الاستسهال في تحليل أسباب الجريمة ولإبراء الذمة، وأحياناً لتصفية خلافات أو للتنفيس عن الكراهية، لممثل أو مغنٍ حقق قدراً من الشهرة، ولكنه دائماً يثير الجدل مثل محمد رمضان، وتعلو الأصوات التي تتهم فيلمه (عبده موتة) وعلى مدى عشر سنوات بالترويج للعنف، الذي يؤدي لارتفاع معدلات الجريمة. استمعت مثلاً إلى من يقول إن مسلسل (بطلوع الروح) الذي شارك أحمد السعدني في بطولته، حيث كان يؤدي دور (داعشي) رفضته منة شلبي، فقرر أن ينتقم منها، واستطاع أن يقنع زوجها بالانضمام إلى «داعش» حتى ينفرد بها.
توجهت الاتهامات للمسلسل لأنه تناول تلك الشخصية على الشاشة فتأثر بها قاتل (نيرة).
هناك حالة من الاستسهال والكسل في التحليل، إلا أنها تلقى صدى كبيراً لدى القطاع الأكبر من الجمهور، لأنها في النهاية تُبعد عنه أي مسؤولية، في التردي الحادث على أرض الواقع، وتعتبر أن الشاشة مسؤولة عن كل ما يجري أمامنا من فساد وانحراف.
هذا الأمر ليس وليد هذه الأيام؛ كانوا في الخمسينات من خلال أحاديث بعض أساتذة علم النفس والاجتماع، يحذرون أولياء الأمور من السماح لأبنائهم بمشاهدة أفلام إسماعيل ياسين حتى لا يصابوا ببلادة عقلية. الزمن شهد لصالح تلك الأفلام التي لا تزال تضحك الأطفال.
في فيلم (شباب امرأة) منتصف الخمسينات، اضطر المخرج صلاح أبو سيف لكتابة كلمة إرشادية على الشاشة، تسبق عرض الفيلم، يطلب فيها من الآباء والأمهات متابعة أبنائهم خوفاً من الغواية، مثلما حدث مع شكري سرحان (إمام) الذي استغلته تحية كاريوكا (شفاعات).
لا تزال (مدرسة المشاغبين) ينالها القسط الأكبر من الاتهامات، وعلى مدى تجاوز نصف قرن باعتبارها سر فساد نظام التعليم. تعاقب أكثر من مسؤول عن التعليم، ولم يستطع أي منهم وضع الحل الصحيح للمنظومة التعليمية، فتحمل المسؤولية نجوم (المشاغبين) عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي.
الجريمة ولدت مع الإنسان، قابيل قتل أخاه هابيل، ولا علاقة لها بالضرورة بوجود مؤثر خارجي. في الدراما من البديهي، وعبر كل السنين في الداخل والخارج، أن نجد أعمالاً يلعب بطولتها الخارجون عن القانون، فهل نضعها كلها في قفص الاتهام؟ أم أن علينا البحث بالضبط عن الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية التي دفعت للجريمة؟
في السنوات الأخيرة لاحظت أن الأصوات التي تدين الفن صارت مسيطرة على المشهد، وتعلو دائماً مع إعلان أي جريمة تهز أركان الرأي العام، ولهؤلاء أقول إذن اهدموا برج الجزيرة واردموا النيل حتى تمنعوا من المنبع حوادث الانتحار!!