أتصور أننى من الندرة الذين لا يزالون يمنحون آذانهم ووجدانهم للإذاعة، نعم أنا كائن (سمعى) وأفتخر، أضبط الراديو فى البيت أو السيارة على موجة الأغانى، التى يصفونها غالبا بالرصينة، لأن هناك إذاعة (شعبيات)، رغم أننى أجد نفسى بين الحين والآخر متلصصا على الشعبيات، حيث عدوية وشعبولا وباتشان وعبد الباسط وأيضا (المهرجانات)، فأنا لا أتعالى أبدا على أى ذوق له مردود جماهيرى، ولا أعتبر نفسى المرجعية أو (الترمومتر) الصائب، كلٌّ من حقه أن يختار ما يحلو له، تستمع إلى (أطلال) أم كلثوم أو ترقص وتصفق مع حسن شاكوش لـ(بنت الجيران)، أنت حر.
اليوم أكملت الإذاعة المصرية عامها رقم 90، انطلقت فى مثل هذا اليوم عام 34، باتت هى نافذة مصر الأولى، عندما قامت ثورة 23 يوليو، توجهت إلى ميكروفون الإذاعة، ليعرف الناس أن هناك ثورة، قبل حتى أن يطلقوا عليها ثورة، كانت فى البداية (حركة) الضباط الأحرار، وهكذا جاء صوت أنور السادات، فى السابعة صباحا، مع الإذاعى الكبير فهمى عمر متعه الله بالصحة والعافية.
مصر عرفت الإذاعات الأهلية فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى، التى كانت تشبه عددا من الفضائيات التى نراها الآن، حيث التجاوز فى استخدام الألفاظ شىء عادى، حتى إن مطربا وملحنا كبيرا، ومن أقوى الأصوات وهو الشيخ الضرير سليط اللسان محمود صبح، الذى كثيرًا ما كان يشن هجمات على المطرب والملحن الشاب محمد عبد الوهاب، كان صبح يمتلك صوتًا، لا يقارن بأى صوت آخر، إلا أن «عبد الوهاب» بمساحات صوتية أقل، وبإحساس ينفذ إلى الروح، احتل مكانة خاصة فى القلوب، أطاحت بـ (صبح)، فكان يتعرض وقتها للشتائم تنهال عليه من «صبح» بالأب والأم!!.
من حسن حظى أن مبنى الإذاعة والتليفزيون، شهد بدايتى، مقصدى اليومى للحصول على الأخبار، وبرغم أننى كنت أعمل فى مجلة أسبوعية (روز اليوسف)، إلا أن النهم الصحفى دفعنى للذهاب اليومى، وأتذكر بمناسبة عيد الإذاعة، شخصيات التقيتها وحفرت فى ذاكرتى مكانة خاصة، مثلًا الكاتب الكبير «بهاء طاهر»، كان فى النصف الثانى من السبعينيات رئيسًا للبرنامج الثانى وهو ما أصبح بعد ذلك (البرنامج الثقافى)، المشكلة التى تواجهنى أنه ليس لدى تصريح يسمح لى بدخول المبنى، والمجلة لم تعترف بى، لأنى لا أزال طالبًا فى كلية الإعلام، ما كان يفعله «بهاء طاهر» على مسؤوليته، أن يكتب اسمى بين عدد من الممثلين فى أى مسلسل تقدمه الإذاعة، فأتمكن من دخول المبنى منتحلا صفة ممثل، لأقتنص الأخبار، ولا أتذكر أننى كتبت أى خبر عن الراحل «بهاء طاهر»!!.
أتذكر «سامية صادق» التى كانت تعتبرنى ابنا ثالثا لها، كانت وقتها تشغل موقع رئيس البرنامج العام، وتقدم (ما يطلبه المستمعون) قبل أن تتولى رئاسة التليفزيون، واتصل بها عبد المطلب معاتبا لأنها لا تقدم أغنيته الجديدة (ما بيسألش على أبدا)، قالت له سوف أقدمها على مسؤوليتى، لم يطلبها أحد غيرى، وبعد إذاعتها، اكتشفها المستمعون فصارت هى رقم واحد فى طلبات المستمعين !!.
الإذاعى «وجدى الحكيم» كتبت أنتقده عن واقعة تقديم تسجيلات لأم كلثوم لإحدى الإذاعات العربية (الكويت)، واتصل بى وشرح لى حقيقة الموقف، وصار بعدها هو المصدر الأساسى فى الكثير من الأخبار، وجدى لديه حاسة التقاط الخبر المثير، ويمتلك ذاكرة حديدية تسأله عن أى رقم تليفون، فلا يحتاج أن يلقى نظرة على (أجندة) ومن الذاكرة يستعيد الرقم وكأنك تسأله عن أسماء أبنائه!!.
«وجدى» هو الإذاعى الأول الذى تستطيع أن تقول وأنت مطمئن إن الأرشيف الفنى للإذاعة المصرية والعربية، مدين له بالقسط الأكبر مما احتفظت به الذاكرة من أحاديث لكبار مبدعينا.
القدير «أحمد سعيد» الذى لا يزال صوته هو عنوان إذاعة «صوت العرب»، دفع «أحمد سعيد» ثمن هزيمة 67 فلقد كانوا يهتفون باسمه فى الخمسينيات، وحتى النكسة فى العديد من البلدان العربية لما كانت تمثله لهم إذاعة صوت العرب، وأطلقوا فى العالم العربى على الإذاعة اسم (صندوق أحمد سعيد)، كانت صورته توضع بجوار «جمال عبد الناصر» و«عبد الحكيم عامر» على كراسات التلاميذ فى أكثر من بلد عربى، وبعد الهزيمة دفع صوته ثمن تبعات الهزيمة ً وأبعدوه عن الميكروفون، وضاق عليه الحال، حتى صارت الشائعة المتداولة أنه أحال سيارته الخاصة إلى تاكسى، وهو ما نفاه تماما، مؤكدا أنها (تشنيعة) من وجدى الحكيم، واتجه للمسرح وكتب (مطلوب لمونة) لثلاثى أضواء المسرح، جورج وسمير والضيف أحمد، مستلهما المثل الشعبى (لمونة فى بلد قرفانة)، وافقت الرقابة، إلا أنها أوقفتها بعد الليلة الأولى، عندما اكتشفت الهدف منها، ولكن الأستاذ أحمد سعيد ظل مسموحا له بالكتابة، ولكنه ممنوع من الحديث أمام الميكروفون ولو حتى للدفاع عن نفسه.
«آمال فهمى» وبرنامجها «على الناصية» هو الأول فى كل الاستفتاءات، آمال هى أول مذيعة تجرى معى حوارا فى برنامجها الأشهر، وبعد إذاعته شعرت أننى أصبحت أهم صحفى فى الوطن العربى.
الشاعر الإذاعى «عمر بطيشة» وكان صديقًا لفايزة أحمد ومحمد سلطان، وبعد أن كتبت تحقيقًا أغضب «فايزة» لأنها استغلت صداقتها بمحافظ القاهرة وأغلقت محل يبيع طعمية أسفل بيتها بحجة أن رائحة الزيت المغلى تؤثر سلبا على أحبالها الصوتية، وكان عنوان التحقيق «الشعب المصرى فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من صوت فايزة أحمد».. العنوان قاس فعلا، وتم الصلح عن طريق عمر، وبالطبع ليس على حساب صاحب محل الطعمية، الذى عاد لمزاولة نشاطه، وقبل سنوات، كنت بجوار العمارة واخترقت أنفى رائحة الطعمية، وثبت عمليا أن رائحة الزيت المغلى تجلى الصوت، والدليل فايزة التى ظل صوتها يزداد تألقا مع كل «طشة»!!.
لا أنسى إذاعيين كبارا مثل «فاروق شوشة»، و«سعد زغلول نصار»، و«نادية صالح»، «ومحمد مرعى»، و«سناء منصور» و«إيناس جوهر» و« أمينة صبرى» و(حسن شمس) و(حكمت الشربيني) وإمام عمر، لى العديد من الحكايات والمواقف مع الكبار أمثال «السيد بدير» و«مدحت عاصم» و«جلال معوض» وغيرهم ولا يتسع المجال لذكرها الآن.
لدينا كنز أغنى من (على بابا)، إنه أرشيف الإذاعة المصرية الزاخر بآلاف من التسجيلات النادرة، أغلى من الذهب والياقوت والزمرد، ننتظر رئيس إذاعة جريئا يقول فقط (افتح يا سمسم)!!.