بقلم - طارق الشناوي
بين الحين والآخر، أفضل أن أنجز مشاويرى سيرًا على الأقدام، وفى تلك الأوقات التى تختنق فيها الشوارع، وتتكدس السيارات، مرسلة المزيد من السموم، التى جعلت القاهرة، مع الأسف، واحدة من أكثر مدن العالم تلوثًا، فى تلك اللحظة نكتشف أن الخطوة كلها بركة، وأن هذه البركة لا تحل إلا إذا كنتَ تسير على الرصيف، مع أسفى الشديد على الحال المُزْرِى الذى آلت إليه الأرصفة فى بلادى.
قرأت دراسة تؤكد أن مخ الإنسان يحتاج بين الحين والآخر إلى تدريبات لياقة، ومن بينها تغيير طريقة السير. ملحوظة: يحتفظ الحمار بدرجة محدودة من الذكاء لأنه لا يغير أبدًا خط سيره. ولهذا علينا ألّا نكف فى البحث عن شوارع جانبية أخرى حتى لا نلقى المصير نفسه، وهذا ما فعلته وأنا أسير من منزلى فى حى المنيل، الذى يبتعد نحو 30 دقيقة سيرًا على الأقدام عن قلب القاهرة، اخترقت شوارع (جاردن سيتى)، وفجأة استوقفتنى رائحة زيت الطعمية، وجّهنى أنفى إلى محل صغير، وعلى الفور أرسل المخ إشارة لكى أستعيد حكاية عمرها اقترب من أربعة عقود من الزمان، إنه نفس المحل الذى كانت تقطن فوقه مباشرة الفنانة الكبيرة الراحلة فايزة أحمد وزوجها الموسيقار الكبير محمد سلطان، كانت «فايزة» بسبب تلك الرائحة النفاذة قد استصدرت أمرًا من محافظ القاهرة بإغلاق المحل، أو على أقل تقدير منعه من قلى الطعمية وأخواتها
(باذنجان وبطاطس وبيض)، وقتها تساءلت على صفحات مجلة (روزاليوسف): كيف لفنانة كبيرة أن تستغل اسمها لتغلق محل أكل عيش؟! وأجريت تحقيقًا استطلعت فيه رأى ملحنين بحجم محمد الموجى ومحمود الشريف ومنير مراد وأحمد صدقى، وكانت بعد زواجها من «سلطان» قد توقفت عن غناء ألحانهم، فأصبح الغضب غضبين والثأر ثأرين، قالوا جميعًا:
(الشعب المصرى بحاجة إلى قرص الطعمية أكثر من حاجته إلى صوت فايزة أحمد)، أجريت حوارًا مع دكتور أنف وأذن وحنجرة عن التأثير السلبى لرائحة الزيت، قال لى: على العكس تمامًا، إنها مفيدة جدًا، فهى تجلى الحبال الصوتية، وتمنحها حلاوة وطلاوة ولمعانًا!!
تراجع المحافظ عن قراره، وغضبت «فايزة»، وتوترت العلاقة بيننا، ثم صرنا فى سنواتها الأخيرة صديقين، حتى رحيلها مثل هذا اليوم عام 83، سألت نفسى وأنا أتجول بالقرب من بيتها: هل حقًا المواطن فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من صوت «فايزة»؟ ممكن مثلًا أن نجد بديلًا للطعمية، ولكن لا بديل عن صوت «فايزة»، ولماذا إذًا وضعت فى كفتى الميزان صوت «فايزة» مقابل قرص الطعمية؟ إنها بالتأكيد قسمة غير عادلة، تطلعت إلى شرفتها، وشعرت أنها تبتسم وتسامحنى على تلك المداعبة الثقيلة، وسرحت: لماذا قادتنى قدماى بالصدفة إلى بيتها، هل لا أزال أشعر بالذنب لأننى يومًا أغضبتها، أم ربما لأن محطات الأغانى والقنوات الفضائية فى عالمنا العربى هى التى أذنبت ولا تزال فى حقها، بعد أن تقلص كثيرًا ما تبثه لها من أغنيات؟!!
ويأتى صوتها مصادفة من مذياع قريب بأغنيتى المفضلة (تمر حنة)، وكأن «فايزة» ترثى «فايزة»: (كنتِ شمعتنا، كنتِ نور بيتنا، كنتِ سامرنا، وانْفَضّ سامرنا).
ملحوظة: أعيد نشر هذا المقال فى ذكرى رحيلها، بينما إذاعة الأغانى، وأنا أراجع العمود قبل إرساله إلى الجريدة، تكرر نفس المصادفة، وأستمع إليها: (كنتِ سامرنا وانْفَضّ سامرنا)!!