بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
رمضان شهرُ الخير والإيمان، وهو هذا العام يفيض بالخير المناخي مطراً وربيعاً، ويعدُ بالمزيد، ودول الخليج، وكثير من الدول العربية، ترفلُ في نعمة الأمن والاستقرار بعدما استطاعت تقليمَ أظافر الجماعات والتنظيمات المتوحشة التي عاثت فساداً وتخريباً ودماراً في طول المنطقة وعرضها لسنواتٍ ليست بالقصيرة.
لا يخلو خير من شرٍّ، ولا شرٌّ من خيرٍ، وفي الفلسفات والأديان تفاصيل لاختلاط الأمرين في البشر والمجتمعات وطبائع الأشياء، وفقهاء المسلمين وعلماء أصول الفقه يعرفون هذا الأمر في قواعد وأصول معروفة ومفصلة، وأدلة التاريخ لا تحصى، وشواهد الواقع ماثلة، وعلى سبيل المثال، ففي خير شهر رمضان وخير المطر والربيع تعتبر «الكمأة» من بشائر الخير، ويتهافت الناس لالتقاطها في الصحاري والبراري، وهكذا فعل بعض السوريين - مثلهم مثل غيرهم - فانقضَّت عليهم وحوشٌ بشرية تابعة لتنظيم «داعش» الإرهابي فقتلت خمسة عشر مواطناً، فيما هناك أربعون آخرون في عداد المفقودين ضمن سلسلة عمليات للتوحش لم تتوقف في ظل غياب الأمن والاستقرار في ذلك البلد المنكوب.
ثمة دولٌ اتخذت إجراءات صارمة قانونياً وتشريعياً وطبّقتها عملياً ضد كل تنظيمات التوحش وجماعاته ورموزه، وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر، وهي تعيش في سلامٍ وأمنٍ واستقرارٍ وتتوثب للمستقبل بخطط ومشاريع واستراتيجيات تنموية هي حديث العالم، ولكن ليست كل دول المنطقة تشاركها هذه الرؤية وهذا الطموح، فالبعض من دول المنطقة لم تزل تلك الجماعات تعيث فيها فساداً أو تتخذها منطلقاً لعملياتها وفتاواها وخطاباتها المتوحشة ضد دول الاستقرار، كما جد كثير من تلك الجماعات ملتجأً آمناً في الدول الغربية، حيث تعيش ويتم دعمها مادياً ومعنوياً لتواصل هجومها على دول الاستقرار والاعتدال والتنمية في المنطقة.
خطابات التوحش خفتت في دول الاعتدال والتنمية، وتم التعامل مع الدول والمحاور الداعمة لها إقليمياً ودولياً بحيث تخسر كل يومٍ مكاناً ومكانةً، وهذا لم يكن ليحدث لولا قوة الاستراتيجية المواجهة لها ورؤى وحزم القيادات في الاستمرار في البناء والتنمية والتطور والرقي، وكثير من أتباع تلك الخطابات إما صمتوا رغباً ورهباً وإما أعادوا التموضع في التوجهات الجديدة وتأقلموا معها وهم يفتشون دائماً عن سبل آمنةٍ للتعبير عن خطاباتهم وآيديولوجيتهم بحسب ما يسمح به الزمان والمكان والظروف.
دلائل العقل ومنطق التاريخ تشير بوضوح إلى أن الآيديولوجيات لا تنتهي بين عشية وضحاها، ولكنها تضمحل بالعلم والوعي وقوة القرار، وانتقال أولويات المجتمع لطموحات جديدةٍ وآمالٍ عاليةٍ، وقوة الآيديولوجيا تأتي من تماسكها الداخلي، وهي تزداد توحشاً كلما ضاقت، وتزداد انتشاراً كلما أتقنت إخفاء ذلك التوحش والتطرف وغطته بمساحيق التجميل الفكري وعباءات التزين الديني والحضاري.
رمضان شهر التسامح والإيمان والغفران، ويتذكر الجميع كيف قلبته خطابات التوحش لسنوات طويلة إلى شهر القتل والتفجير والدماء، تقرباً إلى الله - زعموا - وهم ألدّ أعداء الإسلام والإيمان بحيث خلقوا إسلاماً مستفزاً خاصاً بهم، وأمعنوا في صناعة السخط والإحباط والعنف فصاروا يكرهون الإسلام الحقيقي، إسلام النص والرحمة والتسامح؛ لأنه يكشف عوار خطابات التوحش مهما حاولوا تجميلها وتسويقها عبر الخطب والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وبرامج البودكاست وغيرها.
انزواء خطابات التوحش حقيقيةٌ لا ينكرها عاقلٌ، فهذا واقعٌ تعيشه دول الاعتدال اليوم، وكما أن انزواءها حقيقةٌ ماثلةٌ فإن عدم نهايتها واستمراريتها، وإن في مجالات محدودة حقيقة كذلك، وخطابات التوحش باقية ما بقي صراع الخير والشر بين البشر والمجتمعات وداخل القلوب والعقول، هكذا جرى في التاريخ ويجري في الواقع والمستقبل، وهكذا تحدث الفلاسفة وكتب المفكرون ونشر الباحثون المختصون في علومٍ متعددة ومتنوعة.
في بدايات الربيع العربي أولع بعض الكتاب بالدفاع عن حقوق الجماعات الأصولية والإرهابية في الحكم والوصول إلى السلطة، وصاروا يتحدثون عن أن هذه الجماعات ما هي إلا «فزّاعة» كانت تخوّف بها الأنظمة الحاكمة شعوبها، وانساقوا خلف دعايات السياسة الغربية وإعلامها ومفكريها من دون مساءلة حقيقية ولا تمحيص علميٍ، ولم تكذب تلك الجماعات خبراً فسعت بكل ما تملك للترويج لهؤلاء ودعمهم في سبيلها للاستحواذ على السلطة بكل الطرق الديمقراطية والإرهابية، وبدعمٍ كامل من الدول الغربية والإعلام الغربي وحكمت بالفعل في مصر وغيرها، ثم تجلَّى التوحش بكل أبعاده لا كـ«فزّاعة»، بل كحقيقة جثمت على صدور الشعوب والدول حتى قامت دول الاعتدال العربي بإنقاذ ما أمكن إنقاذه في سياسات ومواقف تاريخية لا يمكن نسيانها.
صناعة النموذج الناجح والمبهر حضارياً وتنموياً هي إحدى أهم طرق الحدّ من خطابات التوحش وهو طريق شديد الصعوبة؛ لأنه يتطلب الكثير من الرؤى والجهود المتضافرة المبدعة والقوية والقادرة على تجاوز المشكلات والتصدي للتحديات والاستجابة للطموحات، وكثير من أتباع تلك الخطابات الصغار وغير مكتملي الأدلجة يتخلون عنها حين يجدون هذا النموذج المبهر يحقق النجاحات المستمرة ويعترف به العالم بأسره شرقاً وغرباً.
جدل الفكر لا ينتهي بانتهاء سخونة الأحداث، بل هو واجب الاستمرار والبناء والدعم للمنجز والطموح مع تحصين الرؤى الحضارية المتقدمة، وتعزيز الوعي الفكري والثقافي الذي يبرزها ويؤكد أهميتها وضرورتها، فالرؤى الكبرى التي غيرت التاريخ كانت على الدوام بحاجة لروافد فكرية وثقافية وفلسفية، تفلسف التوجهات الحاكمة والأولويات المظفّرة وتواجه الاعتراضات المترسخة في أذهان البعض وتردّ عليها وتجادلها وتساءلها وتواجه جديدها بالجديد، وهكذا في عملية فكرية جدلية مستمرة.
المعادلة السياسية الدولية التي تقودها الدول الغربية في منطقتنا ظلت لعقودٍ من الزمن تدعم الجماعات الأصولية في العالم العربي والإسلامي؛ من باكستان إلى المغرب، واستخدمت هذه الجماعات مراراً وتكراراً خنجراً مسموماً لضرب الدول والأوطان، ولم تفكر يوماً في تغيير تلك المعادلة، ولكن السعودية تقود اليوم توجهاً قوياً لإعادة رسم التوازنات الدولية في المنطقة. والتوجه شرقاً نحو الصين مؤشرٌ بالغ الأهمية وإيكال إنجاز الاتفاق التاريخي مع إيران لها يمثل دعماً حقيقياً وعملياً لهذه التوازنات الجديدة.
وفيما لو تم تنفيذ هذا الاتفاق التاريخي فستدخل عشرات الجماعات الأصولية في التيه لسنواتٍ ليست بالقصيرة، خصوصاً بعض الدول الإقليمية الداعمة لها قد بدأت بالفعل بالتوجه نحو التخلي عنها.
أخيراً، فخطابات التوحش ستبقى مثلما بقي غيرها عبر الزمان والمكان، والرهان هو في القدرة على إبقائها في الهامش ومنع تسربها للمتن.