مع الرميحي الخطابات المتوازية

مع الرميحي... الخطابات المتوازية

مع الرميحي... الخطابات المتوازية

 العرب اليوم -

مع الرميحي الخطابات المتوازية

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

كتب الدكتور محمد الرميحي مقالة بالأمس في هذه الصحيفة بعنوان «حتى لا تكون صرخة في وادٍ» تعليقاً على مقالتي الأسبوع الماضي بعنوان «الصحويون: إدمان الخديعة وسذاجة التصديق»، وقد أثرى الرميحي النقاش بأفكارٍ مهمة تفتح الباب لنقاشات أعمق وأكثر تفصيلاً، ممن يمتلك الرؤية والوعي والتخصص في مثل هذه المواضيع الشائكة. ومقالة الدكتور الرميحي جديرة بالمناقشة والتعليق.
لعمق الأثر الذي أحدثته تيارات وجماعات وتنظيمات وخطابات الإسلام السياسي على المجتمعات والدول والعقول والعالم، فإن ترويج نهايتها بشكل سريعٍ وغير مبررٍ ينمّ عن قلة معرفة وتجربة مقرونة باستعجالٍ مخلٍّ يفتقد للأناة والتمحيص والتبصّر، وتطرحه جهتان: إحداهما، هذه الجماعات نفسها، لتقلل به من صرامة المواجهة معها، وتخفف العبء عن أتباعها رموزاً وكوادر، والثانية، بعض المثقفين المخدوعين بهذه الجماعات، أو الذين يتوسلون شهرة لدى أتباعها.
هذه الجماعات ورموزها لديهم دائماً خطابٌ لكل مرحلة، وعقيدة لكل ظرفٍ، وإيمانٌ يتغير بحسب المعطيات ويتقلب بتقلباتها، والأمثلة كثيرة، وهو ما يمكن تسميته «الخطابات المتوازية» أي تلك الخطابات التي تسير بالتوازي بعضها مع بعض، من دون تراكمٍ ومن دون تقاطعٍ، وأحيانا بتناقضٍ، ويمكن استحضار بعض الأمثلة هنا بشكلٍ سريعٍ، فمثلاً ثمة خطابان متوازيان لهذه الجماعات، واحدٌ للتثوير، وصناعة الثورات والانقلابات والتفجيرات والاغتيالات والجهاد والتكفير ونحو ذلك، وآخر للحراسة، بمعنى حماية الماضي؛ لأنه ماضٍ بوصفه منجزاً ومقدساً بحدّ ذاته، كحراسة العقيدة أو الفضيلة أو نحوهما من أنواع الحراسة، وتحت كل واحدٍ من هذين الخطابين عشرات الكتب والمؤلفات والمحاضرات والندوات والمقالات والفتاوى والمواقع الإلكترونية، ومؤخراً الاستخدام المنظم لبعض وسائل التواصل الاجتماعي.
ومثالٌ آخر، يتمثل في خطابين متوازيين آخرين، أحدهما يتحدث عن الإسلام المكّي والآخر عن الإسلام المدني، نسبة لمكة المكرمة والمدينة النبوية، لا باعتبار «المكي» و«المدني» يعبران عن مرحلتين تاريخيتين معروفتين في كتب التراث وعلومه كالتفسير والحديث والفقه؛ بل باعتبار كلٍّ منهما يمثل خطاباً سياسياً ذا أولوياتٍ مختلفة تماماً عن الآخر، فهو تفريق ينطلق من حاجة هذه الجماعات وفروعها في كل بلدٍ ودولة ومجتمعٍ للوصول إلى السلطة، فمرة يستخدمون خطاب الإسلام المكي، ومرة يفضلون خطاب الإسلام المدني، والتأرجح بين هذين الخطابين المتوازيين والتقلب بينهما يتمّ بناء على مصلحة الجماعة في الوصول إلى السلطة، دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
بعض الجماعات قد لا تكون سياسية بشكل مباشرٍ، ولكنها تشكل قوة منظمة تتسم بالتطرف، كبعض الجماعات السلفية غير المسيسة بشكل مباشرٍ، أو تتسم بقوة التجنيد كجماعة التبليغ، أو تتسم بالتأثير وسهولة الاختراق كبعض الطرق الصوفية، وعموماً يجدر التفريق هنا بين نوعين من التطرف: التطرف المعارض للدولة والتطرف الموالي للدولة، والخلافات بين التطرفين ليست عميقة؛ بل في مسائل معينة يمكن حين يتغير الاجتهاد فيها -وهي مسائل فرعية سهلة- أن يلتئم التطرفان بعضهما مع بعض ليشكلا جبهة واحدة، ولئن كان التركيز على هذه الخلافات من بعض الدول في بعض المراحل مفيداً تكتيكياً في لحظات المواجهة الساخنة، فإنه بالغ الضرر استراتيجياً على المدى الطويل، وكم تخسر المجتمعات والدول حين تستجلب أفكاراً قديمة في ظروفٍ متباينة، لخدمة أهدافٍ جديدة ومراحل تاريخية مختلفة وأولويات سياسية واجتماعية حديثة وبعيدة كل البعد عمّا مضى.
الأمثلة مهمة في هذا السياق وهي تنير الطريق وتفتح أبواب الحوار الجاد والجدل المثمر، ولنأخذ فكرة «تكفير» الدولة والمؤسسات الأمنية أو الدينية والتيارات المخالفة للمتطرفين والمجتمعات بشكلٍ عامٍ، فهي في الأصل فكرة واحدة، وإن اختلف التنظير لها والتعبير عنها وأساليب الترويج والحشد بحسب الجماعة التي تتبناها، والمجتمع المستهدف وثقافته، وطبيعة الدولة وقوتها، وحجم اختراق هذه الجماعات لها، فقد يتمّ ذلك عبر مفاهيم مثل «الحاكمية» و«الجاهلية» ذات المصدر القطبي، نسبة لـ«الإخواني» المتطرف سيد قطب، وقد يتم الترويج لها عبر مفاهيم «الشريعة» و«الولاء والبراء» ذات المصدر السلفي، والنتيجة واحدة؛ لأن التطرف ملة واحدة.
كتب الدكتور الرميحي أن «مجمل ما قاله ابن بجاد حقيقي، ونقاشه مهم في مجتمعاتنا، ولكن الوصفة التي تعالج هذا الموضوع -وإن كُتبت وشُرحت من مهتمين- لم يُشرع في تنفيذها». وهذا صحيح بشكل عامٍ، ففهم هذه الجماعات وخطاباتها وتنظيماتها وأفكارها ومفاهيمها يحتاج إلى مراكز دراساتٍ متخصصة، وباحثين بارزين يراكمون المعرفة، ويرسمون التصور الصحيح والتوصيف المحق، ويمهّدون الطريق لرسم حلولٍ عملية، وأيضاً برامج تنفيذية للخروج من هذا الانسداد التاريخي في مواجهة ظاهرة بهذا الحجم والتأثير.
مهمٌّ جداً ما ذكره الدكتور الرميحي عن مسؤولية «التعليم» و«الإعلام» و«التواصل الاجتماعي» في مساعدة هذه الجماعات والخطابات والترويج لها، وتهيئة الساحة لأفكارها ومفاهيمها، وسبب ذلك في الأساس الجهل واللهاث المستمر خلف «المشاهدات» و«الإعلانات»، وكل ما يليق بأولويات تاجرٍ لا بأولويات دولة ومجتمعٍ.
كتب الرميحي قائلاً إن «مشروع الإسلام الحركي السياسي فشل... وبقي المشروع الثقافي الذي لا يفتأ ذلك الكم من معتنقي الإسلام الحركي يدعون من خلاله، ويصرّون على اختراقه». وهذا أحد أكبر المخارج التي وجدتها هذه الجماعات لنفسها ولأتباعها، بحيث ينخرطون في المشروعات الكبرى ذات العناوين المهمة والتي يدعمها إجماعٌ وطنيٌّ، وينخرطون فيها موظفين وقادة، ويحرفونها عن المساس بالجماعة وأفكارها، لتتجه نحو عناوين حديثة لا تُفشل رؤية الجماعة، ولا تقضي على فكرها ومفاهيمها، فيتحدثون عن التنمية والتطوير ويستخدمون «وسائل التواصل»، ويصبحون «مؤثرين»، ويستثمرون في «البودكاست»، وتدون عجلات قطارات هذه الجماعات على قضبانٍ جديدة من عناوين فكرية ووسائل إعلامٍ وتواصل اجتماعي، وتبنى الشبكات التنظيمية الجديدة بطريقة تتعايش مع الأوضاع المستجدة.
من دون علمٍ ومعرفة تبنى وتتراكم، ومن دون تجربة ترسخ وتتحول لخبرة، ومن دون مؤسساتٍ فكرية وثقافية تعنى بنشر ذلك كله، وتحويله لوعي مستقرٍ وثابتٍ، يتم نشره على المستويات كافة، وتعميق تأثيره وترويج مخرجاته، فإن المعركة الطويلة مع هذه الجماعات ستطول أكثر.
أخيراً، فهناك كثير من الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تثيرها مقالة الدكتور الرميحي، وهي جديرة بأن تحظى بما يليق بها من نقاشاتٍ وطروحاتٍ، ومن رؤى ومشروعات وحلولٍ ترسم منارات طريقٍ طويل نحو المستقبل، وتكون بشجاعة الجيل الجديد نفسه، وبحجم طموحه.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مع الرميحي الخطابات المتوازية مع الرميحي الخطابات المتوازية



هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 03:30 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

ميسي يثير الغموض حول مشاركته في كأس العالم 2026
 العرب اليوم - ميسي يثير الغموض حول مشاركته في كأس العالم 2026

GMT 03:26 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

بلينكن يطلب من إسرائيل السماح باستئناف التلقيح لأطفال غزة
 العرب اليوم - بلينكن يطلب من إسرائيل السماح باستئناف التلقيح لأطفال غزة

GMT 00:00 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أمينة خليل تكشف بداياتها الفنية وصعوبات دورها في "شقو"
 العرب اليوم - أمينة خليل تكشف بداياتها الفنية وصعوبات دورها في "شقو"

GMT 12:54 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اكتشاف جينات جديدة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان

GMT 05:14 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

مسؤولية حزب الله

GMT 02:44 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

إعصار "أوسكار" يقتل ثمانية أشخاص في كوبا

GMT 17:16 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

عمرو سعد يتحدث عن غيرته من هيفاء وهبي

GMT 05:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

GMT 14:32 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

نعيم قاسم يؤكد أن برنامجه هو متابعة نهج سلفه حسن نصرالله

GMT 12:13 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

الجيش الإسرائيلي يعتقل أكثر من 100 فلسطيني في شمال غزة

GMT 01:12 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة الفنان مصطفى فهمي عن عمر يناهز الـ 82 عاما

GMT 01:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab