الولايات المتحدة ليست جمهورية موزٍ تسقطها مظاهرة هنا وأخرى هناك، بل هي دولة المؤسسات الراسخة والتاريخ العريق وأكثر من هذا هي أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ البشري بأسره.
صراع الأوباميين وحلفائهم من اليسار والفوضويين مع الرئيس ترمب صراع قوي وحادٌ أوصل
الأوضاع داخل أميركا إلى مستوى غير مسبوقٍ من الاستقطاب ومع ضعف المرشح الديمقراطي جو بايدن اضطر الرئيس السابق باراك أوباما إلى الظهور علناً، وانتقاد الرئيس الحالي دونالد ترمب وهو أمرٌ نادر الحدوث، وقد تلقى أوباما رداً قوياً من ترمب على عادة ترمب في معاملة خصومه.
الإعلام اليساري المتحالف مع الأوباميين أعور لا يرى إلا بعينٍ واحدة؛ ولذلك سعى لإشعال النار بين الناس على مقتل المسكين جورج فلويد ومن دون شكٍ فإن مقتله جريمة عنصرية بغيضة تجرح الحس الإنساني في الصميم، والسؤال هنا، هل دم جورج فلويد أهم من دماء الذين قتلوا من رجال الشرطة ومن المواطنين المدنيين؟ هل مقتل فلويد يبرّر النهب والتخريب والتدمير وحرق الممتلكات وسلب أموال الناس؟ هذا الجانب مسكوتٌ عنه تماماً في تلك الوسائل الإعلامية الأميركية، وقد تأثرت بها قنواتٌ أخرى حول العالم.
في إحدى القنوات العربية كانت المراسلة تتحدث عن أعداد المتظاهرين بمبالغة لا تخطئها العين فالعشرات يصبحون بالمئات، والمئات يصبحون بالآلاف، وهي متأثرة بالإعلام اليساري حيث كانت قناة «سي إن إن» تتحدث باللغة نفسها والتهويل نفسه، ويمكن للمراقب أن يميز بين من ينقل الحدث ومن هو منحاز لأحد أطرافه بسهولة، وكم من شبهٍ بين تغطية ما يجري في أميركا اليوم وتغطية ما كان يعرف بالربيع العربي قبل عقدٍ من الزمان، حيث كانت التجمعات بالمئات توصف بالمليونيات.
الجماهير هي الجماهير سواء في جمهورية عربية أم في أميركا، هي تجمعات غبية ومتحفزة للعنف دائماً والمنخرط فيها وإن كان مميزاً في فكره يضطر للانخراط في مواقف تدفعه الجموع لها قد لا يوافق عليها لو لم يكن في ذلك الظرف التحشيدي العاطفي الساخن.
أميركا المقبلة على الانتخابات بعد بضعة أشهر، والتي لم يزل من المرجح أن يفوز بها الرئيس ترمب لا خصمه الديمقراطي الضعيف أثبتت أن الأوباميين مستعدون للذهاب بالصراع إلى أقصى مدى ممكن، وإن كان في ذلك سيلان الدماء البريئة وخسارة الناس لأموالهم وأمنهم واستقرارهم.
كتب الرئيس ترمب في موقع «تويتر» - الذي عاد وخضع وتراجع عن مهاجمته للرئيس - قائلاً: «الديمقراطيون اليساريون المتطرفون يريدون الحد من تمويل الشرطة». وأضاف أن «بايدن النعسان يسير خلف الاشتراكيين وأنا عكسه» وهذا الهجوم على الشرطة هو استمرارٌ لنهج أوباما الذي ضيق على الجيش الأميركي وخفض تمويله إبان فترة حكمه حتى جاء ترمب وأعاد الأمور لمجاريها.
ما يهم المنطقة في هذا الصراع الأميركي الداخلي هو مصالح الدول العربية والخليجية الرائدة والقائدة وهي - دون شكٍ - مع ترمب وسياساته لا مع أوباما وتياره، ومعلوم ألا حُبّ ولا بغض في السياسة بل مصالح، ومن هنا فكم هو سهلٌ أن نتخلى عن ترمب حين يتجه اتجاهات مخالفة لمصالحنا، فالأمر ليس عقيدة أو آيديولوجيا كما هو الشأن عند محبي وأتباع أوباما المتحمسين.
السياسيون الذين ينفخون في قضية مقتل فلويد سوف ينسونه تماماً بعد تحقيق أهدافهم السياسية، وستعود القضية إلى سياقها الطبيعي الطويل في قصة العنصرية البغيضة في أميركا، وما هي حلولها وكيف يمكن تجاوزها بشكل فعلي وعملي ضمن جدل داخلي طويل الذيل في تاريخ أميركا.
الأوباميون لا يحبون مواجهة المشاكل والحسم فيها، بل يفضلون مداورتها والتفتيش عن حلولٍ سهلة لا تكلف صانع القرار شيئاً حتى لو كان في ذلك خسارة له ولدولته وأمته، وهذا أخبرتنا به مواقف الإدارة السابقة من قضايا الشرق الأوسط، سواء فيما يتعلق بإيران أم نظام الأسد أم جماعة الإخوان، والعهد قريبٌ والذاكرة حية.
كانت العرب تسمي الجماهير أسماء متعددة منها، العامة أو الغوغاء وهي تسمياتٌ فيها موقفٌ سلبيٌّ من الجماهير لأسبابٍ موضوعية يمكن أن يرصدها أي مراقبٍ أو باحثٍ جادٍ قديماً وحديثاً، وأن فائدتهم تكمن في ملء الأسواق وإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق، ولكن تجمعهم لهدف لا يعني سوى الفتنة وإثارة القلاقل، ومن تبصر في ذلك تاريخياً وجد أنَّ في هذا الكلام كثيراً من الصحة، ويكفي في هذا قراءة ما كتبه الكاتب الفرنسي المعروف غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير» وكيف أنه اقترب من تأسيس فرعٍ في علوم الاجتماع يعنى بالجماهير وفهمها وتوجيهها.
الجماهير في جلّها دائماً غبية ويقودها الاستغلال من نخبٍ تقف خلفها وتوجهها وتستفيد من زخمها، وهذا جزء مفيدٌ في تصوّر ما يجري في أميركا اليوم، ولئن كان يحق لنا المقارنة حول تأثير الجماهير واستغلالها بين ما يجري في أميركا وما جرى إبان ما يعرف بالربيع العربي، فيمكن تصوّر أن حركة «أنتيفا» التي يسعى الرئيس ترمب لتصنيفها إرهابية، هي أشبه ما تكون بالتنظيم السري لجماعة الإخوان الذين كان قادتها يتظاهرون سلمياً، والتنظيم يحرق مراكز الشرطة ويفجر المرافق العامة وينشر الفوضى.
الأميركيون أعرف ببلادهم وتاريخهم ومستقبلهم وليسوا بحاجة للتوجيه من أي جهة أو تيارٍ، ولكن العالم مهتمٌ جداً بما يجري هناك؛ لأن له آثاراً كبرى على العالم أجمع، فخلاف الأوباميين مع الجمهوريين في الاستراتيجية والرؤية بلغ حداً كبيراً جداً؛ حيث إن تأثيراته ستكون شبه متعاكسة في كثير من الملفات التي تهم العالم.
ومثال واحد فقط يوضح الفرق الشاسع في التوجهات الاستراتيجية بين الطرفين وهو الموقف من النظام الإيراني، النظام الداعم الأكبر للإرهاب في العالم، فضمن سياسات الخضوع للأعداء والتخلي عن الحلفاء التي انتهجها أوباما فقد وقع مع النظام الإيراني على الاتفاق النووي الذي أعطى النظام كل شيء، فقط ليؤخر النظام تأخير حصوله على السلاح النووي عدة سنواتٍ، ونسي كل الملفات الأخرى الخطيرة، ومن أهمها خطط التوسع واستراتيجيات فرض النفوذ على دول المنطقة ودعم الإرهاب ونشر الفوضى وغيرها، وهو ما سيعود له الأوباميون فيما لو كسبوا الانتخابات، بينما سياسة الرئيس ترمب هي إخضاع النظام بالعقوبات غير المسبوقة وهي مبنية على وعي عميق بطبيعة النظام وخطره على المنطقة والعالم.