بقلم - د. محمود خليل
فصل الشتاء فصل الجِدّات بامتياز. فأغلبنا يذكرون جداتهم في الشتاء على وجه الخصوص، حين كانوا يبحثون عن الدفء فلا يجدونه إلا في حضن الجدة التي تضم أحفادها، يمنحونها الحب فتعطيهم الدفء والأمان، وتطرب آذانهم بحواديتها وأغانيها البديعة: «يا حمام البر صقف».. و«يا حلو تحت التوتة بحري البلد بشوية» و«بتغني لمين يا حمام».
كانت الأغاني البديعة جزءاً من ذلك العصر الذى عشناه مع جداتنا أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، ومنهم الجدة «أم كلثوم».
تقبع «أم كلثوم» في ذاكرتنا في مربع «الجدات»، فهي جدتنا العظيمة، التي عاشت وماتت قريباً من السياقات الزمنية التي عاشت وماتت فيها جدات جيلنا، لم تترك أم كلثوم ولداً أو حفيداً بيولوجياً يمد حبل ذكراها في الحياة، لكنها تمثل بالنسبة لجيلنا الجدة التي تختزن ذكريات طفولتنا الكثير من الحنين لها «لما الشتا يدق البيبان».
وللشتاء في حياة جدتي أم كلثوم وضعية خاصة جداً فقد ولدت في 31 ديسمبر 1898، أي بعد 10 أيام من حلول الشتاء، وتوفيت في 3 فبراير 1975، في عز «طوبة»، في تلك الأيام التي كانت جداتنا يصفنها بأيام «البرد النشير»، حين يقرر «أمشير» أن يقرض أخته «طوبة» 10 أيام من أخيها «أمشير» يجعلونها على «الحيط نشير». كل الأجيال عانت من منشار البرد الذى يشق العظام خلال هذه الأيام.
الشتاء في حياة أم كلثوم له وضعية خاصة، فهو فصل فيه ولدت وفيه ماتت، أظلتها سحائب الرحمة والمغفرة.
ولو أنّك استعرضت سيرة أم كلثوم، كما كتب عنها الراحل «محمود عوض» في كتابه «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد»، أو في كتاب الراحلة «نعمات أحمد فؤاد» عن «أم كلثوم» فستجد «الست» تحكى أكثر ما تحكى عن فصل الشتاء، وكيف كان يلفها منذ أن كانت طفلة صغيرة تسعى مع أبيها وأخيها خالد على رزق العائلة بالإنشاد، فتنتقل من قرية إلى قرية ومن نجع إلى نجع، ومن ليلة إلى ليلة، ومن فرح إلى فرح، ومن مولد إلى مولد، لتشنف آذان الأجيال المحظوظة التي استمعت إلى أم كلثوم الطفلة، ثم الشابة.
ما أكثر ما تجد «الست» تشكو مما كانت تعانيه من البرد وهى تسير مع أبيها وأخيها ذاهبة إلى قرية أو عائدة إلى بيتها في «طماي الزهايرة».
تحملت الطفلة «أم كلثوم» كثيراً حتى تكسب قوتها، لم يصدها عن ذلك برد شتاء أو حر صيف، مثلما تحملت وهي طفلة ثم شابة ثم سيدة جليلة عظيمة، حتى أصبحت رمزاً لكفاح السيدات في جيلها، الجيل الذي عاش في مصر خلال ثلاثة أرباع القرن العشرين.
هذا الجيل من السيدات الذي يمثل فصل الشتاء بالنسبة لهن فصلاً مهماً من تاريخ معاناتهن في الحياة، وفي رحلة عطائهن ومنحهن السعادة للأبناء والأحفاد، وقد كانت وستبقى أم كلثوم -رحمها الله- رمزاً كبيراً عليه.