بقلم - جميل مطر
لم يخطر على بالى قبل أن أفكر فى الكتابة عن مطارات زرتها أو انطلقت منها أو نزلت فيها أو مررت عليها أننى سوف أكون أمام حكايات لى مع، أو في عدد هائل من المطارات. أولها على الإطلاق حكايات عن شغفى المبكر جدًا بالطائرات الحقيقى منها فى طريقها إلى، أو من، مطاراتها والورقى التى تدربت جيدًا على «قيادتها» وأنا طفل فى صحبة أهلى ثم مع أصحابى المراهقين فى رحلاتنا المدرسية إلى القناطر الخيرية وحدائق قصر النيل. لاحظ أبى هذا الشغف ككل شغف آخر لاحظه على تصرفاتى واهتماماتى ثم تتبعه خلال مراحل نضجى من الطفولة ومرورًا بالمراهقة وانتهاء بافتراقنا فى مطار هليوبوليس لأستقل وأنا فى الحادية وعشرين من العمر طائرة تقلنى إلى بيروت ومنها طائرة أخرى إلى مطار بومباى فى الهند ومن بومباى فى اليوم التالى طائرة ثالثة أو رابعة إلى مطار «بالام» نسبة إلى ضاحية من ضواحى العاصمة نيو دلهى.
• • •
ترضية لشغفى البالغ، وكنت ما أزال فى العاشرة من عمرى أو بعدها بقليل، اتفق أبى مع صديق له على ترتيب رحلة لى بطائرة تدريب تجوب سماوات القاهرة ونهرها الخالد وأهراماتها العملاقة. أعرف أن الرحلة، وأذكرها بكل التقدير لأب لا يبخل ولم يبخل كلما تعلق الأمر بشغف أعرب عنه هذا الابن الذى جاء بعد طول انتظار، أعرف أن الرحلة قامت من مطار إمبابة فى شمال غرب العاصمة وكان فى بدايته مطار تدريب تابع للقوات الأمريكية والحلفاء عموما. مرت عشر سنوات أو أقل لأنتقل بعدها من مقعد فى طائرة تدريب إلى مقعد فاخر بالدرجة الأولى فى طائرة تابعة لشركة مصر للطيران متوجهة من مطار هليوبوليس، فاروق الأول سابقا، فى منطقة الهايكستب شرق مدينة القاهرة إلى مطار بيروت، لأقضى فيها ليلة أو ليلتين فى انتظار طائرة أكبر جدا تابعة لشركة طيران الهند، إير إنديا، تتوقف فى بيروت فى طريقها من لندن وروما إلى مطار بومباى الواقع فى غرب الهند.
• • •
كان مطار بومباى أول تجربة لى مع مطار ضخم، كان فى الوقت نفسه أول تجربة لى مع مطار تقل فيه مظاهر التوديع الإنسانية حتى تكاد تنعدم فى مطارات أكبر نزلت فيها أو ركبت منها. كان المودعون فى مطار هليوبوليس ظاهرة تستحق التوقف عندها. هؤلاء وقد تجمعوا فى شرفة المطار لم يكونوا بالضرورة مودعين بل أكثرهم متنزهون يقضون يوم إجازتهم مع أولادهم فى المطار للفرجة وقضاء يوم جميل والتهليل مرحبين بأشخاص نزلوا من طائرات وصلت للتو أو مودعين أشخاص بينهم أقارب متوجهين نحو طائرات لتقلهم إلى مطارات أخرى، وكلهم على آية حال يمشون على الأقدام بين الطائرات وبعضهم يحملون حقائبهم. لم تكن الحافلات فى ذلك الحين وسيلة نقل داخل المطارات إلا فى حالات قليلة فى العالم الغربى.
• • •
مرات كثيرة توقفت فى مطار بومباى. قضيت فى أول مرة زرت فيها بومباى ليلة واحدة وكان هذا فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى. هذه المدينة التى كانت وأظنها ما تزال القلعة التى تنتج أكبر عدد من أفلام السينما فى العالم، أكبر من عدد ما تنتجه هوليوود فى الولايات المتحدة ومن عدد ما تنتجه مدينة السينما الإيطالية «تشينى شيتا». توجهت فى فجر اليوم التالى إلى المطار لأستقل طائرة من شركة هندية تعمل على الخطوط الداخلية. وصلت نيو دلهى منهكًا، بسبب قلة النوم نتيجة صوت مروحة السقف فى غرفة النوم فى الفندق التابع لشركة الطيران وأصوات أخرى صادرة عن حشرات طائرة قضت الليل تكافح سطوة المروحة. كنت منهكًا لسبب آخر. كانت الطائرة معبأة بأكثر من طاقتها بركاب وزكائب وحقائب وسلال من كل نوع. لم ينفع مع جيش المضيفين تلويحى طوال الرحلة بتذكرة سفر بلون مختلف إشارة إلى أن مقعدى بالدرجة الأولى لا بد وأن يكون بانتظار من يملأه.
• • •
لم تكن الرحلة قصيرة بمعيار الوقت الذى استلزمته لنصل إلى مطار نيودلهى المسمى فى ذلك الحين بمطار بالام نسبة إلى ضاحية فى العاصمة. كان مطارًا بسيطًا للغاية قبل أن يسمى باسم أنديرا غاندى، رئيسة وزراء الهند وابنة أول رئيس لوزرائها وصاحب الدعوة مع جمال عبدالناصر وجوزيف تيتو لتشكيل مجموعة الحياد الإيجابى، مررت بالمطار مرتين بعد هذه المرة الأولى، وفى كل مرة كان المطار أكبر حجمًا وأكثر تنوعًا وأشد ازدحامًا بالركاب. سمعت مؤخرًا أنه صار يخدم على أكثر من ألف رحلة يوميًا، أى أنه صار المطار الأهم والأكثر حركة من أى مطار آخر بالهند، ومنها مطار بومباى الذى يفخر بأنه يخدم سنويًا على حوالى ثلث مليون رحلة جوية فى العام ويقع فى أغنى ولايات الهند باعتبار ماهاراشترا الولاية الصناعية الأهم بالإضافة إلى استضافتها صناعة السينما الهندية والسكن الدائم لأغنى أغنياء الهند.
• • •
حدث كل هذا قبل أن أقدم على أكثر من رحلة أخذتنى، دبلوماسيًا ثم صحفيًا، إلى مطارات أخرى عديدة فى جنوب وغرب وشرق القارة الآسيوية قبل أن تصدر أوامر تكليفى وعائلتى بالسفر إلى شيلى على الطرف الآخر من العالم، والسفر مرة أخرى بعد عقدين إلى دول بعينها من دول القارة مع فريق بحثى منوط به دراسة تجربة العدالة الانتقالية فى أمريكا اللاتينية.
• • •
تعرفت فى رحلاتى عبر آسيا على مطارات من حجم مطار هونج كونج. تعرفت أيضًا على مطار دبى الفريد فى نوعه والخرافى فى تسهيلاته وفى مواقع وترف استراحاته. تابعت أيضًا أفول وصعود مطارات عديدة، أزمع أن أفرد لها، أو لبعضها على الأقل، انطباعات كرفيق سفر ورحالة ومستمتع ومجرب خدمات ما قبل الرحلات وما بينها.