كانت أياماً صعبة تلك التى مرت على المصريين خلال سنوات الأزمة المالية التى ضربت دول العالم آواخر العشرينيات من القرن الماضي، ووصل صداها إلى مصر بدءا من عام 1930 وما بعده.
لا تجد وصفا لأبعاد وتأثيرات هذه الأزمة في حياة المصريين العاديين، أبلغ من الوصف الذى قدمه الدكتور سيد عويس فى سيرته الذاتية المعنونة بـ«التاريخ الذي أحمله على ظهرى».
ضربت الأزمة أول ما ضربت المعنى الحقيقى للرجولة.
كان ذلك أول ما رصده الدكتور «سيد عويس» من تداعيات للأزمة، فقد جعلت الأزمة الرجال «أشباه رجال»، وقد كان يتحدث فى هذا السياق، متأثراً بالثقافة التى اكتسبها فى حى «الخليفة»، الذى ولد وعاش فيه طفولته وشبابه.
وكان حينها قد ورث محلاً تجارياً عن أبيه، أصبح يعمل فيه لينفق على أسرته.
الرجولة فى الثقافة الشعبية تعنى القدرة على النهوض بالمسئولية، والوفاء بالالتزامات إزاء الزوجة والأولاد وأفراد العائلة الآخرين، وهذا النهوض وذلك الوفاء يبرران موقع الرجل ومكانته لدى أسرته وعائلته.
ويتآكل معنى الرجولة فى الأوقات التى تتراجع فيها قدرة «رجل البيت» على الإنفاق، لذا كان من الطبيعى أن يستوقف تآكل معنى الرجولة الدكتور سيد عويس أول ما يستوقفه وهو يرسم لنا صورة الحياة فى مصر أيام الأزمة المالية العالمية فى الثلاثينات.
اختفاء فرص العمل، وجلوس الشباب والرجال فى بيوتهم دون شغلة أو مشغلة، يؤدى، ضمن ما يؤدى إليه، إلى نوع من الركود السلعى والخدماتى، بسبب عجز الناس عن الشراء أو الدفع. كانت المحال تفتح أبوابها -كما يصف الدكتور سيد عويس- لكن الزبون لا يأتى، إنه بحاجة ماسة إلى الشراء، لكنه لا يملك الثمن.
اتجه أصحاب المحال فى البداية إلى «الشُكك»، فهرول طالبو الحاجات إليهم، لكن الأيام مرت بعد ذلك دون أن يدفع «مديون» ما عليه من ديون، توقف «الشُكك» وتصدرت يافطة: «إذا نطق الديك.. شُكك أديك» كل المحال.
وكانت النتيجة أن خلت الدكاكين والوكالات التجارية من الزبائن بشكل كامل، وإن هى إلا أيام حتى «جابت ضلفها» وتوقفت عن العمل.. إنها الآثار الطبيعية المتوقعة للركود.
من النتائج الأخرى التى ترتبت على الأزمة -كما رصدها سيد عويس- اتجاه البعض إلى امتهان أى مهنة فى سبيل الحصول على المال، وقد قدم نموذجاً لذلك فى شخصية «أحمد عبدالعال»، وهو شخص لم يكن يعمل شيئاً معيناً، ولكنك كنت تراه «سمساراً» تارة، و«متعطلاً» تارة أخرى، وكنت تراه يبيع الحمام، فعنده «غية حمام»، يشترى لها ويبيع منها، وكنت تراه فى سوق الحمام بالقلعة -ما زال موجوداً حتى اليوم- يبيع ويشترى.
أمثال «أحمد عبدالعال» كانوا كثراً فى ذلك الوقت، وهم نماذج للأشخاص الذين يتجهون إلى «تقليب عيشهم» فى الأزمات، بحثاً عن أى رزق حلال، وهم يستحقون الرثاء فعلاً، لأنهم ليسوا كغيرهم من تجار الأزمات، الذين يعرفون كيف يستغلون حاجة الناس وعجزهم، فى مراكمة الثروات.
والشىء اللافت أن الدكتور سيد عويس -رحمه الله- لم يحكِ لنا عنهم، رغم أن الأزمة المالية العالمية، خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضى، مثّلت مسرحاً لظهور نماذج عديدة منهم.