بقلم - د. محمود خليل
مشاهد عديدة فى قصة نبى الله «يونس» تجسد لك معنى «الفرار إلى الله»، التى تحدثت عنها الآية الكريمة التى تقول: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»، بل قل إن قصة «يونس» -عليه السلام- هى باختصار قصة الفرار إلى الله.
تعلم أن «يونس» خاصم أهله فى قرية «نينوى»، بعد أن ظل يدعوهم إلى الوحدانية دون أن يجد منهم أذناً مصغية، فتركهم وسار نحو شاطئ البحر يبحث عن باب للخروج من هذا الواقع الآثم الرافض أن يمتثل لأمر الله، ولم ينسَ قبل أن يتركهم أن يتوعدهم بعذاب الله الذى سيحيق بهم نتيجة عصيانهم.
لم تمضِ ساعات من عمر الزمن على فرار «يونس» من القرية المشركة حتى ظهرت فى الأفق علامات ما توعدهم به من عذاب الله. تبدل لون السماء، وعصفت الرياح، وتجمعت النذر فى الأفق تشير إلى عذاب الله القادم، هنالك تيقن أهل قرية «نينوى» أن عقاب الله سوف يقع بهم، فارتعبت قلوبهم، وتيقنوا من قدرة الخالق العظيم فهرعوا إليه بالتوبة والإنابة، وخرجوا يبتهلون ويتضرعون فى مشهد مشى فيه الناس والأنعام وكل ما يدب على الأرض داخل القرية، وهو متأرجح بين الخوف من بطش الله والرجاء فى رحمته وعفوه.
لبس أهل «نينوى» ملابس الرهبان الزاهدين فى الحياة، الملابس التى تشبه الأكفان، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، وخرجوا من البيوت وتجمعوا فى الساحات من كل حدب وصوب، وأخذوا يصرخون ويجأرون لله، طالبين عفوه، راجين صفحه، متعشمين فى أن يغفر لهم جهلهم وحمقهم فى عدم طاعة «يونس» والإيمان بالواحد الأحد، علا صوتهم بالبكاء والنشيج حتى كاد يبلغ السماء السابعة، بكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشى، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة.
ظل الركب الضارع إلى الله يسير ويقف، يسير ويقف، حتى خارت قوى الجميع فشرع الناس يسقطون على الأرض، وانهارت الإبل وصغارها، وخارت البقر وأولادها.
أمام مشهد التوبة هذا رقت السماء، فأمطرت رحماتها على المتألمين، وكشف الله تعالى عنهم العذاب بحوله وقوته، ورأفته ورحمته.. يقول الله تعالى: «فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ».
فإذا تركنا أهل قرية «نينوى» وذهبنا إلى يونس عليه السلام، وكان قد امتطى ظهر سفينة انطلقت به فى عرض البحر، وعندها هبت عاصفة شديدة، وكان من الضرورة بمكان أن تتخفف السفينة من جزء من حمولتها، واستقر ركابها على إلقاء أحدهم فى البحر، واقترعوا على ذلك، فرست القرعة على يونس ثلاث مرات، فعلم أنه أمر الله، وأُلقى به فى البحر فابتلعه حوت عظيم، ومكث يونس يسبّح فى بطن الحوت بصوت ضعيف واهن، لكنه كان من الإيمان بحيث وصل إلى السماء: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».
لقد انضم «يونس» رغماً عنه إلى موكب الضراعة والرجاء فى رحمة الله من العقاب.