بقلم - د. محمود خليل
ظل الدكتور أنور المفتى على إخلاصه لمهنته حتى آخر لحظة فى عمره، يرعى المواطن البسيط، ويشرف فى الوقت نفسه على علاج الرئيس جمال عبدالناصر، ويرى البعض أن وفاته المفاجئة لم تكن طبيعية، وربما يكون أحد قد دس له السم، ومات متأثراً بذلك.
يقرر لمعى المطيعى فى كتابه «موسوعة نساء ورجال من مصر» أن البعض كان يسند هذا الزعم بالإشارة إلى الشائعات وقتها كانت تقول إن لسان الدكتور أنور المفتى أفلت ذات مرة بحديث عن مرض الرئيس جمال عبدالناصر، وهذا الكلام نفاه الدكتور منصور فايز، الطبيب الذى أشرف على علاج الرئيس عبدالناصر بعد وفاة الدكتور «المفتى»، وقرر أن هذه الشائعات مغرضة ومقصودة حول أطباء جمال عبدالناصر.
الرواية التى تذهب إلى أن الدكتور المفتى مات ميتة غير طبيعية تبناها الشارع بشكل أساسى، رغم عدم وجاهتها، إذ ليس من المعقول أن يتحدث الدكتور «المفتى» عن أسرار مريض، وأى مريض، إنه جمال عبدالناصر، وهو يعلم أن ذلك مناف للكود المهنى للأطباء، وهذا السبب هو الذى دفع الطبقة المهنية (أطباء عبدالناصر) وطبقة الحكم ككل، إلى تبنى الرواية النقيضة، ورغم ذلك ظلت الرواية الشعبية الأكثر انتشاراً، وقد غذاها فى ذلك الوقت الأجواء العامة التى سادت بر المحروسة خلال النصف الأول من الستينات، وهى الأجواء التى اعترف الرئيس عبدالناصر بوجودها وأثرها السلبى على واقع الحياة فى مصر وما أدت إليه فى يونيو 1967.
والعقل الشعبى لا يكتفى فى مثل هذه الأحوال بنقل ما سمعه من شائعات، بل يضيف عليها من مخيلته. على سبيل المثال يذكر لمعى المطيعى فى كتابه «موسوعة نساء ورجال من مصر» أن شائعة راجت بين المصريين تقول إن الدكتور أنور المفتى بعد أن عاد من عيادته بعمارة اللواء عشية يوم وفاته نظر إلى عينيه فى المرآة وقال لمعاونه الدكتور «أحمد عبدالعزيز»: البركة فيك وأسلم الروح.
هذه الرواية الميلودرامية تمنحك مؤشراً عما يمكن أن تفعله المخيلة الشعبية بالشائعة، وكيف تضيف عليها من مخزونها المعلوماتى حول الشخصية.
فالصورة الذهنية للدكتور «المفتى» لدى الجماهير كانت تضعه فى مربع الطبيب العبقرى القادر على اكتشاف كافة الأمراض -وقد كان الرجل بالفعل كذلك- وبناء عليه فقد بلغت به العبقرية مبلغاً مكنه من إدراك أنه مسموم، وأن حياته تشارف على الانتهاء.
هذا الكلام لا يستطيع أحد أن يثبته أو ينفيه، ففى الحالتين لا يوجد دليل إثبات أو نفى، لكن الحقيقة الواضحة أن هذه الرواية التى راجت عند وفاة الدكتور المفتى تنسجم مع المزاج الشعبى السائد حينذاك وموقفه من كل من السلطة والدكتور المفتى معاً.
تتغذى المخيلة الشعبية أيضا على النجاح، ورؤيتها للشخص المتوهج إنسانياً ومصيره فى الحياة تختلف عن نظرتها إلى الشخص الخامل المحدود، وقد كان للنجاحات المتتالية والرقى الإنسانى الذى تعامل به الدكتور المفتى مع الحياة والبشر دور مهم فى تكريس إحساس بالصدمة لدى محبيه من المصريين، حين سمعوا عن وفاته المفاجئة، فاتجهوا بتفكيرهم إلى مربع الاتهام والتشكك فى الطريقة التى توفى بها رحمه الله.