بقلم - د. محمود خليل
تشهد التجربة أن «النحاس باشا» كان رجل دولة من طراز رفيع، يعرف كيف يحترم دستورها، ويدافع عنه، ويلزم نفسه وغيره بضرورة احترام مؤسساتها، وسواء أكان موقعه على رأس الحكومة، فى الفترات التى حكم فيها «الوفد»، أو على رأس المعارضة خلال الأوقات التى واجه فيها حكومات الأقلية المدعومة من السراى أو الإنجليز، ظل «النحاس» على المستوى الشخصى مسلماً مستنيراً ملتزماً بفروض دينه، يفهم جيداً أن الدين مكون رئيسى من مكونات الثقافة الاجتماعية، وأن من الضرورة الاندماج فى معطياته، وتوظيف مظاهره، وخصوصاً أعياده واحتفالاته المرتبطة بالثقافة الاجتماعية المصرية كرافد من روافد القوة الناعمة للبلاد.
اهتم النحاس باشا بالاحتفال بذكرى مولد النبى صلى الله عليه وسلم، ودأب على إلقاء خطبة يستدعى فيها فضائل صاحب السيرة العطرة، وكثيراً ما احتضن النادى السعدى هذه الاحتفالية السنوية، وقد كاد أن يفقد حياته فى محاولة اغتيال فاشلة قادها الرئيس السادات، حين كان عضواً بالحرس الحديدى، فى أحد هذه الاحتفالات.
اهتم «النحاس» أيضاً باستعادة طقس إرسال كسوة الكعبة من مصر إلى مكة بعد سنوات طويلة من توقفه، ويحكى فى مذكراته عن الأحاسيس التى تفاعلت بداخله وهو يراقب موكب المحمل بعد عودته، ويستمع إلى الأغانى والموسيقى المصاحبة للموكب المقدس.
النحاس باشا أيضاً هو أول من استن سنة الاحتفال الرسمى بمطلع السنة الهجرية. وكان ذلك عام 1942، وقد واتته الفكرة عرضاً -كما يحكى فى مذكراته- قبل أيام من بدء العام الهجرى، وسأل أحد المقربين له: ماذا لو أقمنا حفلاً بمناسبة العام الهجرى على نمط ما تحتفل به الطوائف المسيحية ببدء سنتها الميلادية، وتم يومها التنسيق لإقامة احتفال ليلة العام الهجرى الجديد، ألقى فيه النحاس باشا كلمة عن صاحب الذكرى ودعوة الإسلام إلى الأخوة الإنسانية، وغير ذلك من قيم نبيلة، وصبيحة اليوم التالى اقترح عليه «كامل البنا» أن يكون هذا الحفل الأول من نوعه سُنة متبعة، خصوصاً إذا كان «الوفد» فى الحكم، فيتم الاحتفال بمطلع السنة الهجرية الجديدة رسمياً على مستوى الدولة.
فى الكثير من المواقف عاش «النحاس» باحثاً عن معية الله، متأملاً فيما يحدث حوله لمن تكبروا وطغوا وبغوا، ومتخذاً منهم العبرة، يحكى الزعيم الشعبى فى مذكراته حول نهاية الملك فؤاد: «جاءتنى أخبار من بعض موظفى القصر أن الملك اشتدت به العلة وأنه عندما يفيق يكلم نفسه بكلمات مؤداها أنه لا يريد أن يموت، وأنه أسس العرش لكى يبقى فيه، لا ليتركه. وقد قال المحيطون به إن هذيانه أكثر من جده، وإن النوبات التى تعتريه تستغرق من الزمن أكثر من الوقت الذى يفيق فيه، وإن آلامه كلها متمركزة فى حنجرته فى مكان الرصاصة التى أطلقها عليه الأمير سيف الدين شقيق زوجته السابقة شويكار عندما طلقها ولا يزال أميراً».
ويعلق على هذه الأخبار قائلاً: «قلت اللهم تباركت وتعاليت وحكمت فعدلت. هذه نهاية الطاغين ولو كان كل إنسان يفكر فى مصيره وفى نهايته المحتومة، لما كان مآله كمآل فؤاد الذى طالما استبد وطغى وبغى وسام مصر الخسف، وتصرف فيها وكأنها مزرعة من مزارع أبيه».
لم يكن الأمر شماتة قدر ما كان تأملاً ومحاولة لاستخلاص العبرة وتنبيه الذات.. وأقرب أذن إلى هذا اللسان أذن هذا الإنسان!