بقلم - محمود خليل
الثقة في القدرة على العودة في أي وقت آفة من الآفات التي تضرب الفرد أو الجماعة عندما يسيطر عليه الشعور بفائض القوة. إنهما يصبحان مثل فريق كرة القدم الذي يتم تسجيل هدف فيه، ثم الثاني، ثم الثالث، دون أن يهتز للاعبيه أو لمدربه جفن، ثقة منهم بالقدرة على العودة أو "الريمونتادا" -بالمصطلح الكروي- في أي وقت، بعدها تمضي دقائق المباراة، دون أن يحرز هدفاً، ليطلق الحكم صافرته معلناً الهزيمة.
مخزون الغرور الكامن داخل النفسية الاسرائيلية نتيجة الأرض التي نجحت في احتلالها ونزعها من العرب منذ نشأتها وحتى عام 1967 هيأ لها أن انتصار الفلسطينيين المقاومين عليها في أي موقعة مستحيل، والحقيقة أنهم لم يتعلموا من درس نصر أكتوبر 1973، وخدعوا أنفسهم وأوهموا شعبهم بأنهم استطاعوا العودة أو الريمونتادا مرة ثانية، عبر مجموعة من اللقطات التليفزيونية، في محاولة يائسة للتخفيف من أثر النصر الذي حققه المصريون عليهم في الحرب.
تستطيع القيادة داخل أي دولة أن تكذب على شعبها في محاولة لتهوين كارثة معينة عليه، ويمكن أن تنجح في ذلك. المشكلة تبدأ حين تتحول الكذبة إلى حقيقة، حتى يصدقها من أطلقها، وذلك ما حدث في إسرائيل. فالأرجح أنهم صدقوا العديد من الاكاذيب التي أطلقوها على أنفسهم، ومع تناقلها من جيل إلى جيل تحولت إلى ما يشيه الأساطير، وكان على رأسها أسطورة "الريمونتادا".
في عالم الكرة الهدف يمكن تعويضه، لكن ذلك لا ينطبق على مجالات الحياة الأخرى. فمهما فعلت إسرائيل لكي تعوض ما خسرته يوم 7 أكتوبر وما بعده لن تستطيع، مهما قتلت ودمرت لن تستطيع، لأنها تواجه شعباً صامداً مؤمنا بحقه في الحياة.
كم من مرة قصفت إسرائيل أحياء غزة.. فماذا كانت النتيجة؟ إن الهجوم الذي قامت به المقاومة ليس أكثر من نتيجة طبيعية للعدوان على الفلسطينيين، لذلك فأي تعويض تظنه إسرائيل لن يعدو أن يكون مزيداً من الخسارة لها.
ومن المعلوم أن الهجوم المغرور غير العابىء بالنتائج يؤدي إلى انكشاف الدفاع.
"الريمونتادا" الواجبة هذه المرة هي العودة إلى حل الدولتين، ومنح الفلسطينيين حقهم في الحياة داخل دولة حقيقية، وغير ذلك يعني ببساطة استمرار الوضع على ما هو عليه، هدوء حذر لبعض الوقت، واشتباك أغلب الوقت.
والتحرك الأخير الذي قامت به المقاومة يؤشر إلى تحولات شديدة النوعية في أدائها، فلأول مرة تدور معارك داخل الأرض التي احتلتها إسرائيل بعد 1948، وفي قلب المدن والأحياء التي اغتصبتها، وفي كل المرات السابقة كان الاشتباك يتم عبر السماء (طائرات إسرائيل وصواريخ المقاومة) أما هذه المرة فقد أفلحت المقاومة في جر الاسرائيليين إلى الاشتباك على الأرض.
هذه القواعد الجديدة للاشتباك التي أفرزها "طوفان الأقصى" خلقت واقعاً جديداً لصالح القضية الفلسطينية.في إسرائيل يرددون أن غزة لن تعود كما كانت بعد ما فعلته المقاومة، إشارة إلى أنهم سوف يسحقون المدينة، وتلك أكذوبة يروجونها لدى شعبهم بعد أن أهدرت قوتهم المزعومة على الأرض.
المنطقة العربية كلها قبل 7 أكتوبر ستكون غيرها بعد هذا التاريخ.. الزمان اختلف.