بقلم - د. محمود خليل
أول أنواع الكذب الذي يؤدي إلى هدم حائط الأخلاق داخل أي مجتمع هو "الكذب على الذات".
يكذب الإنسان على ذاته حين يصور أو يتصور واقعه الشخصي على غير حقيقته.. تخيل شخصين أحدهما يعملان في نفس المكان أو المجال، ويحصّلان نفس الدخل نهاية كل شهر، لكن ثمة فروقاً بينهما في طرق التفكير، الأول واقعي يدرك أن دخله محدود وأن عليه أن يدير أحتياجاته الشخصية واحتياجات أسرته في ضوئه، فلا يسرف في أكل أو لبس أو تعليم أو فسح، أو في التخطيط لمشروعات لا يقدر على تحمل تكلفتها، في حين يظهر الثاني كشخص متطلع لا ينظر إلى حاله أو حال من يشابهه أو يدانيه في المعطيات، بل يشطح ببصره إلى من يفوقه دخلاً وقدرة، يريد أن ينفق براحته، ويوفر لنفسه ولأسرته كل الاحتياجات الترفيهية وغير ذلك.الشخص الأول الذي يتحرك بطاقة رضا وواقعية وعقل في التعامل مع معطياته هو نموذج للصدق مع النفس، في حين أن الثاني نموذج للكذب على الذات.. الراضي الواقعي العاقل يمتلك الأرضية المتينة لبناء حائط أخلاقي صلب، أما المتطلع الناقم القافز على واقعه فمهيأ للوقوف أسفل حائط أخلاقي هش ومتداع.صاحب نظرية "الكذب على الذات" سيكون أمامه أحد طريقين، أولهما طريق الحقد والحسد والنقمة على الذات وعلى الغير، أو طريق الفساد إن تهيأت له سبله.
وإن سمع صوتاً من داخله أو من خارجه يعتب عليه ما يفعل، فما أسهل ما يبرر لنفسه ذلك بالكذب على الذات عبر العبارات الشهيرة: "زيي زي أهل بلدي".. "ما كله بيعمل كده".الكذب على الذات يرتكز على فكرة "تخدير الضمير الفردي"، وتخدير الضمير كما تعلم هو أصل كل الشرور الأخلاقية التي يعاني منها الفرد والمجتمع، ولا تعجب إذا سمعت الشخص الذي تعود تبرير فساده المالي بفساد الواقع يحدثك بفخر عن عياله الغشاشين في الامتحانات "لأن كله بيغش"، أو يسطون على فرص يستحقها غيرهم "لأن كله بيقطع بعضه.. والشاطر اللي يلهف ويجري" أو يأكل حقوق غيره لأن "الشطارة كده".
انتشار حالة الكذب على الذات بين عدد كبير من أفراد أي مجتمع كفيل بهدم حائط أخلاقياته، لأنك سوف تجد من بينهم من يكذب على ذاته ويصورها على غير حقيقتها على مستوى ما يملك من قدرات، وآخر يصورها على غير حقيقتها على مستوى المعطيات، وثالث على مستوى ما تستحق من فرص، ورابع على مستوى ما تستحق من مكاسب، وخامس على مستوى ما تستحق من تطلعات.
من يبررلنفسه تنويم أو تغييب ضميره الفردي انطلاقاً من أن أغلب من حوله يعيشون مثله بضمائر ناعسة ينسى أن مخالب الشر التي يخمش بها غيره، قد يقابلها في لحظة ما مخالب أشد فتكاً، وعليه حينها ألا يضجر أو ينزعج، لأنه في النهاية جزء من قاعدة المخالب، وليس لذئب أن يطلب من ذئب مثله أداء حمل.