بقلم - د. محمود خليل
رغم ما حمله خبر التحاقي بالجامعة من فرحة لأمي، إلا أنه وضعها في محنة، وأعادها من جديد إلى طرح سؤالها المعتاد: "يعني لازم الجامعة دي؟".
مصدر المحنة أنني لأول مرة سوف أسير وحدي في طريق، لا ليس ذلك وفقط، بل يُحتمل أن أعبر الشارع وحدي، أما ثالثة الأثافي فحددتها أمي في "ركوب الأتوبيس" وحدي.قبل ذلك لم تكن أمي تتركني أسير وحدي بحال، وحين كنت أتمرد عليها، كانت توعز إلى شقيقي الأكبر، المهندس أحمد خليل، متعه الله بالصحة والعافية، بأن يصحبني في أي طريق أسيره.
ما أكثر ما كنت ترجوه أمي قائلة: "امسك أخوك في يديك"، كنت أضحك من قولها، أما أخي فكان يحسم الموقف قائلاً: "سيبيه يعتمد على نفسه"، لكن أنى للعطوفة المشفقة أن تقبل بأن يسير ضعيفها هكذا بمفرده في الهواء الطلق؟.
ذهبت إلى الجامعة أول يوم مصحوباً بدعائها، تركتها لقلقها، أديت كما يؤدي أي طالب جديد خرج لتوه من المدرسة الثانوية، ووجد نفسه في عالم جديد داخل الجامعة، لكنني لم أستطع أن أنقل "جدول المحاضرات".. وكانت أزمة كبرى من وجهة نظر أمي!.نظرت إلى شقيقي الأكبر ورجته أن يذهب معي في اليوم التالي لينقل لي الجدول!.. هاودها أخي حتى لا يغضبها، واتفقت معه في أن يذهب إلى كليته "الهندسة"، وأن أذهب إلى كليتي "الإعلام"، وسأنقل الجدول، وحتى لو لم أفعل سأقول لها أني فعلت.
نقلت الجدول، وتم حل المشكلة في النهاية، لكن القلق بقي قائماً.. كنت أضحك منها ومعها وأقول لها: يا أمي لقد كبرت.. وأستطيع فعل الكثير من الأشياء بمفردي، ولكن هيهات.. وكيف لحجة عقل أن تعالج أم يقتات عليها القلق كلما ابتعد عنها ضعيفها.. حدثتها كثيراً أن في مقدوري أن أسير وحدي، وأعبر الشارع بمفردي، وأركب الأتوبيس مع الراكبين، وأنني لم أعد أشعر بمشكلة، لكنها كانت تبادرني قائلة: "كل خطوة يلزمها ألف سلامة".
هكذا كانت تفكر أمي، وكذلك كانت كل الأمهات يفكرن، خصوصاً من الجيل الذي مثلت البيوت بالنسبة له الحصن الحصين والركن الركين، الذي يتحقق فيه الأمن والسكن، كن يخفن من الشارع ومخاطره، ويؤمنّ أن كل خطوة فيه تحتاج إلى ألف سلامة من الله الرحمن الرحيم.
تواصلت مسيرة تفوقي في الجامعة، كنت أباهيها بما أفعل فتفرح، لكنا لم تنس ولو للحظة أن تذكرني بـ"أستاذتي الأولى".. كنت أساألها ملاطفاً: أستاذتي!.. من تكون؟.. فكانت ترد مؤنبة: "أول من علمتك كيف تقرأ اليافطات في الشوارع.. فأستفزها قائلاً: "أستاذة يدوب تجيد القراءة والكتابة".. فترد زاجرة: "بس علمتك!"صدقت أمي وكذبت.. فلا فضل لمعلم بعد ذلك الذي علمك كيف تفض لغز الأبجدية.. كيف تفك شفرة الكلمات والجمل.. كيف تقف أمام المعاني فتستوعبها.. لا يوجد من يعدل في الحياة الإنسانة التي علمتك أولى الحروف في سطر الحياة.. ليس هناك من يساوي من أخذت بيديك لأول مرة نحو امتلاك ناصية اللغة.نعم.. أمي بحق "استاذتي الأولى".