بقلم - د. محمود خليل
الدرس الأساسى الذى يمكن استخلاصه من قصة «أبوالأنبياء» إبراهيم، عليه السلام، ملخصه أن «العقل الراشد جوهر الحكمة». امتلك «إبراهيم» الحكمة.. يقول تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ». الحكمة التى دعته إلى التوقف أمام قومه الذين يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ويبذلون لها القرابين، حتى باتت وبات كهنتها أثرى الأثرياء، واستحل هؤلاء «قوت يوم» الفقراء حتى ترضى عنهم الآلهة.جاء «إبراهيم»، عليه السلام، بـ«كلمة العقل»، العقل الباحث عن الحقيقة فى ملكوت السماوات والأرض، أخذ فى تأمل الكون من حوله بحثاً عن خيط يصل به إلى الخالق العظيم، استخدم عقله المشتعل بالحيرة والسؤال، نظر إلى أحد الكواكب، وتساءل: هل يكون ذلك الكوكب هو خالق الكون؟ ثم استبعد الفرضية، رأى القمر، وقال قد يكون هذا، ثم استبعد ذلك، ومن بعده أبصر الشمس، فافترض الفرضية نفسها، ثم استبعدها، حتى انتهى إلى حقيقة أن الهدى هدى الله، فدعاه بالهداية: «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ».وما إن أدرك نبى الله إبراهيم الحقيقة حتى واجه قومه بها، ألقى بها فى وجه أبيه صانع الأوثان، وفى وجه أهله وقرابته، ثم فى وجه الجميع، صرخ فى وجهه أصحاب المصالح، من كبار الكهنة المستفيدين من حالة العبث العقلى التى يعيشها المجتمع، هتف المجموع الجاهل وطالب بإحراقه: «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ». إنها طريقة «العنف والقهر» المعتادة التى دأب ذوو العقل الجاهل وأصحاب المصالح على اعتمادها فى مواجهة أى تهديد.تحرك قوم إبراهيم ضد النبى الذى دعاهم إلى «كلمة العقل» وكلهم ثقة فى أن إرادتهم ماضية، وأنهم سوف يقضون عليه، ويقهرون كلمته، فماذا يمكن أن يفعل فرد أمام مجموع؟ أهمل هؤلاء أن نجاح إبراهيم فى هدم الفكر الوثنى بات إرادة من الله، لا يستطيع أحد معاندتها، وهرولوا إلى إشعال الحريق الكبير، وطمأنوا أنفسهم بأنهم منتصرون. نجا «إبراهيم» من النار بقدر الله، وأكلت القلوب المشتعلة بالجهل والطمع.إرادة الله مضت، وسقط المعاندون، وبات إبراهيم -وهو الفرد- أمة وحده، فى مواجهة طوابير الرافضين لإعمال عقلهم، والاستجابة إلى دعوته إلى التخلى عن عبادة الأصنام التى لا تنفع ولا تضر، بمن فيهم والده الذى أنجبه. كان «إبراهيم» يتمنى فى نفسه أن يؤمن أبوه الذى يحبه ويريد إنقاذه من الضلال، لكنه أدرك أن قدر الله تعالى لا يعاند، حين بقى أبوه على وثنيته. أخذ يستغفر ربه لأبيه، لأنه سبق ووعد أباه بذلك: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً»، وظل كذلك حتى تبين له أنه عدو لله.. فما كان منه إلا أن استجاب لأقدار الله، وتبرأ من أبيه: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ».رأس الحكمة مخافة الله.