"لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه"..
يسمع آدم الصغير صوت صبي يافع يتلو بعذوبة آيات من سورة "القيامة"..
يسأل: من الذي ضبط التليفزيون على قناة الفجر؟. مؤكد أنها أمي.. صوت القارىء عذب.. والكلمات تتسرب إلى النفس فتمنحها هدوءاً وسلاماً..
يشخص أمامه جده آدم ويقول له: إنه صوت جدك وهو صبي صغير يراجع ما حفظ من آيات القرآن الكريم.كان أبي يجلس إلى جواري ينظر في كتاب الله وأنا أتلو ما حفظت حتى وصلت إلى الآية الكريمة التي تقول: "أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه".. فتوقف عن النظر وسكت.. صدّقت.. ثم سألته عما به؟.. فانهمرت الدموع من عينيه.. وأنّ أنيناً موجعاً..
بعد أن هدأ حكى لي قصة الترجمان لأول مرة.. تلك القصة التي لم يعرف أبي نهايتها.. وشاء الله أن تكون التتمة على يدي.
- الشاب (بلهفة): حليت اللغز يا جدي؟.
- الشيخ: نعم.. ولكن في مناسبة أخرى غير تلك.حفظ "آدم الجد" القرآن الكريم، وأجاد ترتيله بصوت عذب يعكس إحساساً مرهفاً بمعانيه العميقة. ثم التحق بالمدارس حتى حصل على البكالوريا ثم التحق بكلية الحقوق في بواكير نشأة الجامعة المصرية.
- الشاب (ساخراً): حقوق!.. لماذا لم تدخل طب أو هندسة بجامعة خاصة؟.. جدى مصطفى كما تحكي كان غنياً.
- الشيخ (مبتسماً): أنت تحكم بأيامك.. جامعة وحيدة كانت موجودة في مصر على أيامي.. وكلية الحقوق كانت توصف بكلية الوزراء.. كل الزعامات التي عرفتها مصر خرجت من هذه الكلية.درست في الجامعة على يد علماء كبار، لكنني تأثرت أكثر ما تأثرت بمحاضرات الشيخ طنطاوي جوهري.. كان الرجل عالماً نافذ البصيرة.. يغوص في القرآن الكريم فيأتي بجواهر المعاني.. كتب تفسيراً كاملاً للقرآن استفاد فيه من ثقافته المتنوعة في العلوم الطبيعية.. كان شغوفاً بعلوم النبات والحيوان والفلك وكافة علوم الطبيعة، ومغرماً بشكل خاص بعلوم الروح والروحانيات.تأثرت بهذا الرجل كثيراً، بما يملكه من علم وحكمة وعمق في النظر إلى الحياة والموت، والدنيا والآخرة، والماضي والحاضر، والشرق والغرب. تابعت كل محاضراته في الجامعة وخارج الجامعة، وقرأت كل مؤلفاته ومقالاته التي كان يسطرها بقلمه الفياض في جريدة اللواء التي كان يصدرها الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل.وجود جريدة اللواء في يدي كان يغضب أبي كثيراً.. ذات يوم دخلت عليه وأنا أحملها فقال لي:
- مصطفى: لماذا تحمل اللواء في يدك؟.. لا أعرف ما قيمة قراءة هذه الجريدة؟
- آدم: إنها الجريدة الناطقة باسم الحركة الوطنية في مصر.. ألست مع الجلاء والدستور يا أبي؟.
- مصطفى (ساخراً): وهل ترى أن الجلاء سيتحقق على يد مصطفى كامل؟.
- آدم: إنه وطني حقيقي يا أبي.
- مصطفى: أي وطنية في رجل يدعو إلى التخلص من الاستعمار الانجليزي لأن مصر مستعمرة عثمانية؟.. إنه عميل من عملاء الترك.
- آدم: هذا ظلم للرجل يا أبي.. إنه يحتج فقط بأن مصر ولاية عثمانية حتى يخرج الانجليز من مصر.
- مصطفى: إنه يحب الأتراك ولولا ذلك لما أيده الخديو عباس حلمي.. لعنة الله على العباسين الأول والثاني.
- آدم: عباس حلمي حاكم وطني.. الناس تهتف باسمه في الشوارع.
- مصطفى: البركة في حبيبك مصطفى كامل.. (بتأفف): رجل إنشائي.. كلامه لا يسمن ولا يغني من جوع.مرور السنين لم يُنس مصطفى غضب أبيه الترجمان على عباس الأول الذي أوقف مشروعات جده العظيم.. ولم يُنسه الباشا التركي وغدره بأبيه.. ظل يرى أباه الترجمان في أحلامه وهو يلومه على عدم جمع عظامه المتناثرة سنين طويلة.. وأول شىء كان يفعله كل صباح هو لعنة من غدروا به.