بقلم - د. محمود خليل
إذا كان الأرجح أن معاوية من حزب "مسلمي الفتح" أو الطلقاء، فإن الثابت لدى كل كتاب التراث أن أباه "أبا سفيان بن حرب"، وأمه هند بنت عتبة، كانا على رأس هذا الحزب، وقد أسلما بعد أن دان الأمر للنبي وصحابته تماماً داخل مكة، وباتت تحت السيطرة الكاملة للمسلمين.
استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى نصيحة عمه العباس الذي سمعه يقول: "من دخل داره فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن"، فقال له عمه "أعط أبا سفيان شيئاً فإنه سيد في قومه"، فأردف النبي: "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
كان العباس رضي الله عنه من أكثر بني هاشم فهماً لأبي سفيان، ويعلم قدراته وتأثيره جيداً، وليس أدل على ذلك من الحوار الذي دار بينهما وهما ينظران إلى جيش المسلمين الفاتح لمكة، فقد أسر أبو سفيان في أذن العباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقال العباس: "ويحك إنها النبوة"، فقال أبو سفيان: "نعم إذن".
تجد الحوار كاملاً في كتاب "الكامل في التاريخ" لصاحبه "ابن الأثير"الأمر من وجهة نظر أبي سفيان كان "ملكاً وسياسة" أكثر من كونه "نبوة ودين".
ولا أجد فيما أقول جرأة، وإلا كيف نفهم هذا الحوار، وفي أقل تقدير نستطيع أن نقول أن البدايات الإيمانية لأبي سفيان كانت "سياسية" أكثر منها دينية، يدلل على ذلك الحوار الذي دار بينه وبين النبي، حين طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يشهد ألا إله إلا الله ففعل، وطلب منه أن يشهد أن محمداً رسول الله فعلق أبو سفيان قائلاً: "اما تلك ففي النفس منها شىء".. فلحقه العباس قائلاً: ويحكم تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك!.
وقد كاد عمر ابن الخطاب يضرب عنق أبي سفيان بالفعل وهو في طريقه إلا النبي لولا أن أجاره العباس، حضور ملفت تجده للهاشمي العتيد العباس بن عبد المطلب في سياق المواقف والحوارات التي ظهر فيها أبو سفيان بعد فتح مكة.
كان الأول يفهم الثاني جيداً، فمل يكن أقل منه حنكة على المستوى السياسي، ومحاولة الإبراز التي اجتهد في القيام بها لصالح أبي سفيان كانت سياسة وفي صالح النبي، فقد كان يرى أن تهدئة الأوضاع مع الأمويين بات ضرورة حتى يستقر كامل مكة للنبي، وبالتالي لم يجد غضاضة في أن ينبه ابن أخيه إلى ضرورة إعلاء مقام أبي سفيان، وأجاره من القتل حين حاول عمر ذلك، وتقبل منه مسألة "الإيمان السياسي" كضرورة مرحلية.
مؤكد أن ثمة فارقاً بين "الإيمان السياسي" المدعوم بمبدأ "تأليف القلوب" و"الإيمان الديني" بمعناه الشامل المتكامل، وربما يكون أبو سفيان قد تقلب على المرحلتين، بدليل ما يذكره الرواة من أنه شارك يوم حنين وفقد إحدى عينيه يومها. وقد حصل حينذاك على الكثير من سهم "المؤلفة قلوبهم"، إذ كان يصنفه النبي صلى الله عليه وسلم في إطارهم.
ويقول صاحب السيرة الحلبية أن النبي منح أبا سفيان من غنائم الواقعة 300 من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضة، وأن أبا سفيان علق قائلاً: بأبي أنا وأمي يا رسول الله، لأنت كريم في الحرب وفي السلم، وفي لفظ: لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، وقد سالمتك فنعم المسالم أنت، هذا غاية الكرم جزاك الله خيرا.