بقلم - محمود خليل
فى مسجد حسين صدقى بالمعادى كان الطفل أيمن الظواهرى يجلس منصتاً إلى خطب الجمعة والأعياد وكلمات الوعظ التى تعيد تسميع ما احتوت عليه بعض كتب التاريخ الإسلامى، وفى مراهقته وبدء نشاطه الدعوى تحرك إلى مسجد الفاروق بحى المعادى أيضاً، وجعله مقراً لاجتماعات الخلية التى بدأ فى تكوينها، كما يذهب لورانس رايت فى كتابه «البروج المشيّدة».
خلال حقبتى الستينات والسبعينات كان من النادر أن تجد تحرّكات دعوية أو خلايا للجماعات الإسلامية داخل مساجد أولياء الله الصالحين وآل بيت النبى، مثل السيدة زينب أو السيدة عائشة أو السيدة سكينة أو الحسين. كان من الممكن أن تشاهد هذه التحركات أو العناصر داخل بعض المساجد الموروثة عن العصرين العثمانى والمملوكى، لكنها كانت محدودة أيضاًَ بحكم سيطرة الدولة عليها عن طريق وزارة الأوقاف.
الحضور الأساسى للتحركات الدعوية والجماعات الإسلامية كان داخل المساجد حديثة العهد التى بناها أفراد، مثل المسجد الذى بناه الفنان حسين صدقى عام 1954 وحضر افتتاحه الرئيس محمد نجيب، ورئيس الوزراء حينذاك جمال عبدالناصر، ومسجد الفاروق الذى أمر بإنشائه الملك فاروق حتى يكون هناك مسجد قريب من قصر شقيقته الأميرة فوزية بالمعادى، ورغم تبعيته للأوقاف، فإنه كان من المساجد المحكومة، بما يسمى الجمعيات الخيرية خلال فترة السبعينات، وسيطرت عليه الجماعات، مثلما فعلت فى مساجد أخرى شبيهة.
من فوق منابر هذه المساجد وغيرها تم نشر الكثير من الحكايات العجيبة العجائبية استقبلتها آذان الكبار بالإعجاب، وآذان الأطفال بالانبهار. والسر فى ذلك يتعلق بتصور لدى المشايخ والدعاة، مداره أن الخطاب القصصى الحكائى هو الأصلح للعوام والصغار. قد يكون هذا التصور صالحاً بشرط انتقاء المناسب والواقعى والعقلانى، لكن البعض لا يطربه إلا الغريب والعجيب واللاعقلانى من هذه القصص.
فى هذا العالم الغرائبى العجائبى الناطق بالقوة السحرية تحرك خطاب بعض المشايخ من فوق مساجد المنابر، العالم الذى يفلق فيه على بن أبى طالب، رضى الله عنه، رجلاً فيقسمه نصفين بضربة سيف فى معركة، ويخلع فيه باباً يفتحه سبعة رجال من مكانه ليتدرع به بعد أن انثنت درعه من كثرة ما دفع بها من طعنات ورشقات، العالم الذى يرى فيه عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وهو يقف على المنبر فى المدينة، القائد «سارية» وهو يقود سرية فى العراق يوشك أن يلتف عليه عدوه، فيصرخ من فوق المنبر: يا سارية الجبل الجبل ومن استرعى الذئب ظلم، العالم الذى يبلغ فيه النبى، صلى الله عليه وسلم، وصاحباه أبوبكر وعمر، الخليفة «عثمان» قبل مقتله بليلة بأن يصوم اليوم التالى لأنه سيفطر معهم.
الخطير فى الأمر أن المشايخ كانوا يربطون القوة المفرطة، والرؤية العابرة للحدود، والصفاء النادر للنفس بما تمتع به هذا الجيل من الصحابة من إيمان، وقد كانوا الأرفع إيماناً بالفعل، لكن المؤكد أيضاً أنهم لم يكونوا عجائبيين غرائبيين على هذا النحو، بل كانوا أشد الناس عقلانية وواقعية، وهى عقلانية وواقعية استمدوها من إيمانهم، ومن النبى، صلى الله عليه وسلم، الذى علّمهم أن الحياة بقوانينها، وليس بالمعجزات السماوية. وعندما طلب منه مشركو مكة الإتيان بمثل هذه المعجزات رد عليهم بأنه بشر لا يملك قلب قوانين الطبيعة: «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا». يبدو من يطلبون ذلك وكأنهم سقطوا من كتاب ألف ليلة وليلة، وأخشى أن أقول إن بعض الخطابات التى تنتقى من التراث هذه الوقائع الغرائبية العجائبية تقع فى السياق نفسه، رغم أنه لا حاجة بنا إلى ذلك، خصوصاً أن سيرة الصحابة الأجلاء مليئة بما يشهد على عقلانيتهم وواقعيتهم.
أيمن الظواهرى نتاج للغرائبية العجائبية التى نسجت خلايا تفكيره، فعاش حياته يطلب مستحيلاً وينتظر الدعم من عالمه السحرى الخاص الذى عاش فيه حتى لقى مصرعه بأحدث ما توصل إليه العالم الواقعى من علم وتكنولوجيا.