بقلم - محمود خليل
كلما قرأ البعض عن حادثة غريبة أو جريمة عجيبة أو سلوك يشذ عما نعرفه عن مجتمعنا المصرى أخذوا يسألون: كيف يمكن أن نواجه هذا الخطر؟. من حيث إن هناك تحولات خطرة تظهر فى الواقع فهذا أمر واقعى ملموس، وهى تحولات تكمن فى جوهرها حول فكرة «إخراج المخالب».
أسرع ما يفعله بعض الأفراد فى مواجهاتهم اليومية مع غيرهم هو إخراج المخالب، ونشبها فى رقاب بعضهم البعض. أمام أصحاب المخالب يقبع آخرون طيبون يمثلون غالبية البشر الطبيعيين الذين يسعون فى الشارع المصرى، لكن المشكلة أن أدوات تصوير الواقع تجد مادة شيقة وأكثر إغراءً لدى «أصحاب المخالب»، يظهر لك ذلك بوضوح فى تريندات السوشيال ميديا، والأخبار المتداولة على المواقع، وكذلك داخل بعض الأعمال الدرامية.
العنف حالة من حالات الواقع وليس الواقع كله، لكنه يمثل المادة الأساسية التى تعتمد عليها أدوات تصوير الواقع، وهو أيضاً الحامل الموضوعى للمحتوى الذى يجد أكبر قدر من التفاعل من جانب جمهور هذه الأدوات. العنف فى النهاية سلوك تغذيه معتقدات واتجاهات. كل شىء فى هذه الحياة أساسه أفكار تسكن العقل، ونوازع عاطفية تسكن الوجدان.
أواخر الثلاثينات وخلال حقبة الأربعينات طفت على سطح الواقع فى مصر العديد من الأفكار التى مثلت فى نظر بعض المحافظين خطراً على المجتمع المصرى مثل الأفكار الوجودية والعدمية وأفكار اللا دينيين، والأخطر الأفكار الفاشية التى ارتبطت بصعود هتلر فى ألمانيا وموسولينى فى إيطاليا.
كل عصر وكذلك كل جيل غالباً ما يواجه تحولات سلوكية تغذيها أفكار يصفها محافظوه بالخطرة، لكن أساليب التفاعل معها هى التى تختلف من فترة إلى فترة ومن جيل إلى جيل.
على سبيل المثال عالج نجيب محفوظ السلوكيات والأفكار التى تفاعلت على مسرح الحياة فى مصر الثلاثينات عبر روايته القاهرة الجديدة (القاهرة 30) مستخدماً رؤية بانورامية صورت الواقع بكل تفاصيله وبعيداً عن أى نوع من الانتقائية التى تقعر تفصيلة ما فتضخمها، أو تحدب أخرى فتحجمها.
قدم الروائى الكبير شخصية محجوب عبدالدايم «العدمية» التى تتبنى فلسفة «طز» ولديها استعداد لوطء جميع القيم فى سبيل تحقيق مصالحها، وشخصية الصحفى أحمد بدير التى تتبنى فلسفة براجماتية واضحة فى التعامل مع الواقع، وشخصية على طه الرومانسية الحالمة التى ترى الواقع من خلال الأفكار النبيلة لـ«سان سيمون»، وتدافع عن حق الفقراء فى الحياة، حتى ولو استخدمت العنف فى سبيل ذلك، وقدم شخصية «مؤمن» الذى وجد خلاصه من هذا العالم الصاخب فى الدين، ولم يتردد هو ومن آمن بمثل ما آمن به أن يحوله إلى أيديولوجية سياسية يعارك بها فى سوق الفاشية.
كل الأفكار كان لها مكان -بغض النظر عن مستوى توازنها أو شذوذها- لأن المجتمع وجد حينها مفكراً مثل عباس محمود العقاد يطرح فكرة التحصين فى مواجهة ما يراه البعض «أوبئة فكرية» تحمل خطراً على صحة المجتمع، فرفض فكرة المصادرة والنفى لأفكار معينة بذريعة أنها أفكار ضارة، وأكد أن أحداً لا يستطيع أن يمنع تدفق الأفكار داخل أى مجتمع، وأن الحل فى مثل هذه الأحوال يتمثل فى تربية وتطوير العقل، بحيث يستطيع التمييز بين الغث والثمين من الأفكار، والقيم وقليل القيمة منها.
منذ فترة الثلاثينات وحتى اللحظة الحالية والعقل المصرى يخوض المواجهة تلو المواجهة ويحاول تطبيق نظرية «العقاد» فى تحصين العقل، لكن كل مواجهة تنتهى إلى إخفاق، كذلك كانت التجربة مع الكتب كنافذة لنشر الأفكار الخطرة، ثم مع التليفزيون وأدوات الاتصال المرئى فى عصر الفضائيات، ثم مع السوشيال ميديا، التى لم تعد مجرد أداة لتصوير الأفكار والأحداث التى تتفاعل فى الواقع، بل صارت الأداة الأهم لتحريك الواقع، والعامل الخفى الذى يقف وراء العديد من الأحداث والحوادث التى تثير إحساس المجتمع بالخطر.
أجاب «عباس العقاد» عن سؤال: «كيف نواجه الخطر خلال فترة الثلاثينات؟» بعبارة من 3 كلمات: «تربية العقل النقدى».. فماذا فعلنا بعدها؟