بقلم - محمود خليل
علمياً وتكنولوجياً نحن ننتمى إلى دول العالم الثالث التى تتعامل مع نتاج العلم والتكنولوجيا داخل العالم المتقدم بمنطق الاستهلاك، لكن فنياً الوضع يختلف، على الأقل خلال العقود الثمانية الماضية من القرن العشرين.
على مستوى الفنون وقفت مصر طيلة هذه العقود ضمن أكثر المجتمعات تقدماً وتنوراً وإبداعاً وإنتاجاً. نحن من أقدم الدول التى عرفت السينما، وساهم مبدعوها فى تطوير فن الرواية، ويكفى أن نشير فى هذا السياق إلى الروائى العالمى نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للأدب (1988).
تستطيع أن تمسك بخيط التميز فى الإبداع الفنى المصرى خلال العقود الثمانية الأولى من القرن العشرين من خلال نموذج تبلورت حوله كل معانى التفوق التى دفعت بمصر إلى الصفوف الأولى على مستوى الفن، خلافاً لأوضاعنا العلمية والتكنولوجية وغيرها. إنه نموذج «الظاهرة الكلثومية».
لم تكن أم كلثوم مجرد فنانة، بل ظاهرة وعنوان لتيار الإبداع طيلة القرن العشرين. مصدر تفوقها لا يتحدد فقط فى صوتها العبقرى وقدراتها الغنائية المدهشة، بل تمثل فى تحولها من مجرد شخصية مبدعة إلى مؤسسة لإنتاج الإبداع، فإجادتها اختيار ما تغنيه من كلمات دفعت جيلاً بأكمله من الشعراء نحو السعى إلى التجديد والتجويد، ووعيها وانفتاحها الكامل على كافة أشكال وصور التجديد الموسيقى منحت أغانيها شباباً دائماً وقدرة على عبور الزمن. إنها الفنانة التى شدت بألحان عمالقة كانوا فى الستينات من عمرهم وشاب فى العشرينات من عمره (بليغ حمدى) فى حفلة واحدة.
إبداع الظاهرة الكلثومية لم يقتصر على شخصيتها الفنية وفنها الراقى، بل تجاوزها إلى مجمل الحركة الفنية فى مصر، فكل المطربين والمطربات الموجودين إلى جوارها سعوا إلى تقديم فن يليق بعصر أم كلثوم. فكلهم يعلم أن المستمع يقيس ما يسمعه على «مسطرة كلثومية» شديدة الرهافة، فبالغوا فى الإجادة.
منذ ما يزيد على أربعة عقود بدأت المسألة فى الاختلاف، اختفى الجيل الكلثومى الشغوف بتقديم إبداع حقيقى، وظهر جيل جديد يقدم فناً استهلاكياً يفتقر إلى جوهر مفهوم الإبداع المتمثل فى لمس الأوتار الإنسانية المشتركة بين البشر، ومغازلة الروح بأفراحها وأحزانها ليفعل فعله فى السمو بها، ويتمكن من العبور عبر الزمان والمكان. أخذ منحنى الإبداع الفنى فى الهبوط جيلاً بعد جيل حتى وصلنا إلى زمن الحدادى والغربان والمجعراتى وأم قويق.
فى ظل حالة العبثية الفنية التى ضربت بجذورها فى واقعنا خلال السنوات الأخيرة، ظلت الظاهرة الكلثومية شامخة تجد من بين الأجيال الجديدة من يبحث عنها وعن رموز العصر الفنى الذى ألهمته أم كلثوم، أصبحت استعادة أغنية لأم كلثوم أو شريفة فاضل أو سعاد محمد أو عبدالحليم حافظ بصوت أحد المطربين والمطربات تلقى صدى واسعاً لدى الأجيال الجديدة، وبات الفضول يدفع بعض الشباب إلى استعادة الأغنية فى نسختها الأصلية والبحث عن باقى الأغانى.
فى ظل قدرة الظاهرة الكلثومية على الصمود اتجه البعض إلى الضرب تحت الحزام فأخذ يثرثر بكلام يشبه كلام المصاطب حول أم كلثوم. فالبعض لم يعد يكفيه حالة العبث التى وصلنا إليها فى الحاضر، ويريد الانقضاض على التاريخ ليقطع خطوط مقاومته للتدهور الحالى.