بقلم - محمود خليل
يفضل الكثيرون العودة إلى زمن «الأبيض والأسود» عندما يستبد بهم التعب من زمن «الألوان»، فتجدهم يتجهون إلى البحث عن فيلم قديم «أبيض وأسود» وقضاء الوقت أمامه إنهم يهربون من التعقيد إلى البساطة، ومن سطحيات الحياة إلى عمقها، ومن صخب الحاضر إلى هدوء الماضى، ومن زمن الشات إلى زمن الاستماع عبر نجيب محفوظ عن هذه الحالة الإنسانية فى روايته «أولاد حارتنا»، وهو يحكى قصة «أدهم» ابن «الجبلاوى»، ولحظات التعب التى عاشها بعد طرده من البيت الكبير بسبب معصيته لأبيه، واندفاعه إلى اقتحام خلوة الأب للاطلاع على وصية الوقف.
عانى «أدهم» الأمرّين عندما هبط إلى زحمة الحارة واضطر إلى أن يحصل على قوت يومه بعرقه وتعبه، كان يسائل نفسه وهو يبحث عن شجرة يلتمس أسفلها الظل: أين حديقة البيت الكبير؟.. الحديقة التى كان يجلس فيها مسترخياً تحت ظل أشجارها، لا يسمع سوى صوت الطيور المحلّقة ويستمتع بأنغامها، التى تثير فى نفسه شجناً راقياً، يدفعه إلى التقاط الناى، ليترجم أشواق نفسه الراضية إلى نغمات ملهمة تحتفى بالحياة وتلهج بالشكر لصاحب البيت الكبير الذى يسّر هذه النعم لمن يعيشون فيه كثيرون يجدون فى أنفسهم الحنين هذه الأيام لزمن الحديقة والناى الذى كان يحلم «أدهم الجبلاوى» بالعودة إليه ثانية عبر التفتيش فى دفاتر الأبيض والأسود.
تجد البعض يحدثك عن بساطة الحياة فى حقبة الأربعينات من القرن الماضى والتى تحكيها لك أفلام نجيب الريحانى، والأدب الراقى فى تعامل الناس بعضهم مع بعض، والقدرة على الصفح التى كان يتمتع بها الجميع. وتجد آخر يصف لك كيف تآزر مجتمع بأكمله مع طفلة صغيرة -فى فيلم «حياة أو موت»- حيث أخطأ الصيدلى فى إعداد دواء لأبيها فخلطه بمادة سامة، ولحظة أن أدرك ذلك تحرك بشجاعة أدبية نادرة ولجأ إلى حكمدار العاصمة ليحاول إنقاذ شخص من نتائج خطأ وقع فيه، يبكى الصيدلى بحرارة وهو يستحلف الحكمدار بالتحرك لإنقاذ أب من الوفاة فى يوم العيد، وحماية أسرة من فقد عائلها، فيستجيب الحكمدار وتتآزر معه الإذاعة فى محاولة الإنقاذ.. وفى الشارع تجد الجميع يمد يده للفتاة حتى تصل سالمة آمنة إلى بيتها، بعد أن ضلت الطريق إليه.
وتجد ثالثاً يصف لك حالة التسامح التى كانت تسود المجتمع، والتى ظهرت فى احتواء لقيط فى فيلم الخطايا، ودفعت نجمة كبيرة إلى الوقوع فى حب كومبارس والزواج منه فى فيلم «معبودة الجماهير»، وحالة الرفض العارم للقبح الذى طرأ على المجتمع فى فيلم «السوق السوداء»، وكذلك رفض أن يتحول المال إلى إله معبود فى فيلم «الخمسة جنيه»، وأن يستبد الأب بسلطانه ويعيش بشخصية مزدوجة فى البيت والشارع فى «بين القصرين». يقول البعض إن الحنين لأفلام الأبيض والأسود يدفع إليه مشاهدة الصور النظيفة والهادئة للشوارع والطرق والمواصلات وبهاء البيوت وغير ذلك، وظنى أن السر ليس فى نظافة المكان قدر ما هو فى نظافة الإنسان الذى تعبر عنه هذه الأفلام إنها محاولة للبحث عن إنسان أكثر نظافة على المستوى الأخلاقى.. بحث عن إنسان يعرف كيف يؤدى فى الحياة كإنسان.. إنسان يعرف كيف يقلل مساحات الأسود فى داخله لحساب الأبيض.