بقلم: د. محمود خليل
المطالع لمحضر اجتماع مجلس الوزراء المنعقد بقصر القبة يوم 20 يونيو 1967، برئاسة جمال عبدالناصر، وهو أول اجتماع بعد نكسة يونيو 1967 يقرأ جملة نافذة وردت على لسان الرئيس -رحمه الله- وهو يصف الأسباب التى أدت إلى النكسة، يقول فيها: «إحنا كنا فى تمثيلية موش حقيقة».. وقد تستوقفه جملة أخرى جاءت على لسان عبدالمحسن أبوالنور يقول فيها: «ما يؤخذ علينا أن كلامنا كان أكبر من عملنا».
المفارقة بين التصورات أو التخيلات التى يكونها المجموع عن الواقع والحقيقة التى يتجسد فيها والصورة التى يبدو عليها هى ببساطة الفارق ما بين العبث والحقيقة، هى الفارق بين اللاشىء والشىء، والنتيجة الطبيعية لهذه الحالة أن يتمكن «اللاشىء» من دهس الواقع، تماماً كما حدث عام 1967.
فأوراق الصحف وأبواق الإذاعة والتليفزيون كانت تصرخ ليل نهار باللاشىء، ولا تنقل الواقع كما هو واقع، ما أكثر ما كانت تجعل من الحبة قبة، ومن القبة حبة. لو أنك قلّبت فى أعداد الصحف خلال الفترة من أواخر الأربعينات حتى بداية الستينات على سبيل المثال ستجدها وقد انشغلت أياماً طوالاً ببعض الحوادث التى وصفت فى ذلك الحين بأنها شغلت القطر المصرى من أدناه إلى أقصاه.
أواخر الأربعينات انشغلت الصحف بقضية «خُط الصعيد» (محمد منصور) الذى دوخ البوليس، وتحاكى الناس عن قدراته الخارقة فى مواجهة رجاله، بعدها وخلال فترة الخمسينات ظهرت قضية محمود أمين سليمان (السفاح)، الذى عاش لفكرة الانتقام، وتمكنت الصحف من خلق اهتمام عام غير مسبوق به، وبدأ الناس يحكون عن أساطيره، إلى حد أن تردد فى الشارع المصرى حينذاك أن السفاح ذهب فى مشوار ليحارب إسرائيل ويخلص العرب منها!
لو أنك التقطت العبارة الأخيرة وتأملتها فسوف تعرف من خلالها كيف كان يفكر الناس فى أمر الصراع مع العدو. فالبعض تصور أن شخصاً بمفرده قادر على حسمه، وليس يهم المجهود العام، وأننا نملك عدداً من البشر أضعاف ما يملكه العدو، وأن الشعب لو خرج عليهم بالعصى والنبابيت فسوف يرديهم عن آخرهم، ويتخلص من الصداع المزمن الذى يعانيه منذ عام 1948.
نحن هنا أمام نموذج صارخ للعبثية والغرق فى اللاشىء، فبدلاً من التماس سبل واقعية معصرنة تعتمد على أدوات العلم والتكنولوجيا فى المواجهة غرقنا فى مجموعة من الترهات، ودخل المجموع فى حالة خرف عام، غذتها إرادة أعلى كانت تجد الخير لنفسها فى إغراق الناس فى هذه الحالة، حتى لا يقف أحد ويفكر.
فبنفس الطريقة التى كان يستقبل بها العقل المنشغل باللاشىء الكلام عن خُط الصعيد وسفاح القاهرة، ويرحب بالشائعة التى تقول إنه «راح يحارب إسرائيل» -وأظن أن الجملة الأخيرة استدعاها المرحوم عاطف الطيب- فى فيلم «الهروب»، تقبل «عقل اللا شىء» أيضاً العديد من الأفكار التخيلية عن الواقع، وهام بها وغرق فيها حتى استيقظ على الكارثة.