بقلم - د. محمود خليل
هل المجتمعات العربية معنية أصلاً بالمستقبل الذى تريد الولوج عبر عتبته لتجد موضعاً لها بين المجتمعات التى نحلم بأن نكون مثلها، سياسياً واقتصادياً وتعليمياً وصحياً وغير ذلك؟.. الإجابة على هذا السؤال لا بد أن تكون بالنفى، لأننا كعرب ننشغل بالماضى أكثر مما ننشغل بالمستقبل، بل وأحياناً أكثر مما ننشغل بالحاضر.
وحتى لا تختلط الأمور لا بد أن نفرق بين الانشغال بالتاريخ والانشغال بالماضى. فتاريخنا لا بد أن نعرفه ونتعلمه بل ونستلهم فتراته المضيئة أيضاً، بشرط أن يكون تناولنا له واعياً وهادفاً إلى اكتشاف جذور المشكلات التى نعانيها فى اللحظة المعاشة، وفهم القوانين التى تحكم حركة البشر داخل المجتمعات التى نعيش فيها عبر تحليل الأحداث التاريخية.. أما الانشغال بالماضى فيعنى ببساطة العراكات حول قضايا وشخصيات رحلت منذ عشرات أو مئات السنين وما زالت تثير الجدل حتى اللحظة، ومحاولة استرجاع التاريخ فى لحظات معينة منه وكأن حركة الزمن تجمّدت عندها.
الماضوية تعنى إهمال التحولات الزمنية ومعادلاتها والاجتهاد فى إحياء صور الماضى وأفكاره وحتى أسمائه ومسمياته. أشهر الأحزاب التى نشأت بعد ثورة يوليو 1952 فى مصر تسمت بأسماء أحزاب من الماضى، ورغم برامجها المختلفة بالطبع، لم يكن من اللائق اتخاذ اسم من الماضى للتعبير عن واقع مختلف تجاوز الماضى ورموزه وأسماءه، والأمر نفسه ينطبق على أسماء الصحف الجديدة التى تأخذ أسماء صحف قديمة، وكأنه لا جديد تحت الشمس العربية.
آفة الماضويين أنهم يهتمون بالأحداث والأفكار والأشخاص خارج السياق. وإهدار السياق يؤدى إلى عدم الدقة فى الحكم على الحدث الماضى من ناحية، بالإضافة إلى ما يعبّر عنه من إهمال للمعادلة الزمنية من ناحية أخرى.
فى المقابل لا تجد المجتمعات العربية شغوفة بالبحث فى مسارات المستقبل، مثلما هم منشغلون بالماضى وقضاياه وأحداثه وشخوصه. فما أقل مراكز الدراسات المستقبلية داخل عالمنا العربى، وما أدنى الاهتمام بالدراسات المستقبلية داخل جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية، وإن وُجدت فهى لا تقدم النتائج المرجوة التى يمكن الاستعانة بها فى رسم خطط بعيدة المدى تضع المجتمعات العربية على عتبة المستقبل.
والعلة فى غياب الرؤى المستقبلية لدينا تتعلق بأمرين: الأول الانشغال بالماضى بعيداً عن استخلاص القوانين التى حكمت حركته ولم تزل تؤثر فى الواقع المعاش، والثانى يتصل بعدم توافر بيانات دقيقة أو معلومات علمية عن ظواهر الحاضر بصورة تتيح توقع سيناريوهات تطورها فى المستقبل، فنحن مجتمعات تفضل «الستر» على «الإفصاح والتصريح».. حياتنا كلها كذلك، فما أكثر ما نُخفى المعلومات أو نضلل فيها، والمسألة هنا لا تتصل بالمسئولين داخل المؤسسات العربية المختلفة فقط، بل تمتد أيضاً إلى الأفراد العاديين، الذين يحرص بعضهم على إخفاء مجموع «الولد أو البنت» فى الثانوية العامة، أو يضلل فيه بالزيادة أو النقص، وإذا رزقه الله بولد أعلن فى البداية أنه رُزق ببنت، خوفاً من الحسد!
آفة التعتيم على المستقبل ليست إرادة مسئول وفقط، بل أيضاً إرادة لدى بعض المواطنين العرب العاديين.. والسؤال: كيف يمكن أن نخطو نحو مستقبل لا نعرف عنه ما يلزم معرفته؟