بقلم: د. محمود خليل
انشغلت غالبية الأطراف بعد ظهور جماعات الإسلام السياسى بنقد مسألة الزج بالدين فى سوق السياسة، وتعالت الأصوات بالحديث عن مخاطر التجارة بالدين، أو الضحك على الناس بمجموعة من الشعارات العامة الغامضة، التى لا تحمل فى طياتها أية رؤى إجرائية لحل مشكلاتهم الواقعية، فى المقابل اتجهت قلة قليلة إلى التفكير فى أثر عملية «تسييس الدين» على الأخلاقيات العامة.
الانشغال بالسياسة وتوظيف الدين فى ساحاتها هز مقام المحتوى الأخلاقى للأديان فى حياة الناس. فالسياسة بطبيعتها تعتمد على مبادئ عملية براجماتية، ولا تكاد تكون محكومة بقيم أو أخلاق، فتلك المسائل نسبية كأشد ما يكون بالنسبة لساسة العالم، أما الدين فيعبر عن منظومة أخلاقية وقيمية متماسكة كل التماسك، والأخلاق فيه لا تمارس بصورة نسبية أو تبعاً للمصلحة، بل لا بد أن تحكم سلوكيات الفرد فى كل الأحوال: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي». العدل -على سبيل المثال- كقيمة أخلاقية نص عليها القرآن لا تطبق تبعاً للهوى، بل فى كل الأحوال حتى ولو كان على من تكره أو تعادى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». لم يكن المجتمع خلال الفترة التى ظهرت فيها جماعة الإخوان وما تلاها من جماعات الإسلام السياسى بحاجة إلى تنظيمات أو أحزاب أو ساسة جدد، بل كان بحاجة إلى إصلاح أخلاقى، يمثل حجر الزاوية فى أى نهضة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية نرجوها، كان بحاجة إلى تعلم احترام قيمة الوقت، وقيمة العمل وإتقان العمل، والصدق فى القول والفعل، والسلام الاجتماعى مع الآخر، والعدل، والرحمة، والإحسان، واحترام آدمية الإنسان وكرامته.
ولو أن المنشغلين باستثمار الدين فى حلبات السياسة وقفوا وفكروا للحظة لأدركوا أن أنبياء الله تعالى جعلوا من الإصلاح الخلقى أساساً لتغيير المجتمعات. نبى الله شعيب -عليه السلام- يعد نموذجاً مضيئاً على ذلك، حين جعل من حربه على التطفيف فى الميزان وبخس الناس أشيائهم أساساً لبناء مجتمع جديد، والمسيح -عليه السلام- جعل من المحبة أساساً لبناء المجتمعات السليمة السوية، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وصفه الخالق سبحانه وتعالى بـ«وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم»، ووصف الهدف الجوهرى لرسالته بإتمام مكارم الأخلاق: «إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
ومثلما أبحر أصحاب نظرية التوظيف السياسى للدين بعيداً عن جوهر رسالته فى الحياة، واختزلوا بناءه الشامخ فى «السياسة» بادر منتقدوهم إلى الغرق معهم فى المسألة، وأصبح جوهر مواجهتهم له هو مجرد سؤال عن البرامج العملية التى تترجم شعاراتهم الدينية وتقدم حلولاً لمشكلات الواقع بأنواعها المختلفة، ونسوا الخطر الكبير الذى يمكن أن يترتب على تفريغ الدين من محتواه الأخلاقى. انظر حولك وتأمل المشكلات أو الحوادث المزعجة التى تقفز بين الحين والآخر على سطح الأحداث، وستجد أن جوهرها غياب الأخلاق كنتيجة طبيعية لغياب التربية، بسبب انصراف المؤسسات المسئولة عنها إلى غير وظيفتها، فمؤسسة التعليم تنشغل بالامتحانات والشهادات أكثر من التربية، والأسر غارقة فى سباق الاستهلاك بعيداً عن أدوارها الأصيلة فى احتواء وترقية أخلاقيات الأبناء، وأخيراً بات من يزعمون صحبة الدين منشغلين بالسياسة أكثر من الأخلاق.