بقلم: د. محمود خليل
حياة الشاعر إبراهيم ناجى، صاحب قصيدة الأطلال، بدأت بالغبن وانتهت به. لم ترق الحروف فى يد شاعر كما رقّت فى يد «ناجى»، ولم تنسجم الكلمات فى أبيات كما انسجمت فى شعره. تخرج فى كلية الطب وعمل طبيباً جراحاً، اقتنع بأن الطبيب هو أوعى الناس بالناس، ومع ذلك فهو أقل الناس حديثاً عن الناس.
تفجرت موهبة «ناجى» الشعرية منذ فترة مبكرة من شبابه المرهف، لكنه كان كغيره من شعراء جيله متمرداً على تقاليد الشعر العربى التى يؤمن بها كهنة معبد النقد الأدبى حينذاك، وعلى رأسهم الكبيران «عباس العقاد وطه حسين»، اتهم «العميد» شعر «ناجى» بالضعف والهشاشة وسلقه بلسان حاد، مما كان له أثر مر على نفسية الشاعر الشاب، فلك أن تتخيل أثر التسفيه على رجل يكتوى إحساسه بكل حرف ينقشه وكل كلمة يكتبها.
أصيبت الموهبة القديرة بصدمة أمام الواقع الذى دهسها وغبن قدرها، لكن الشاعر المؤمن بذاته واصل الكتابة، بالإضافة إلى العمل فى مستشفيات الحكومة وعيادته الخاصة، فكلها نوافذ ظل يطل منها على نفوس البشر، ومكث كذلك حتى عرفه الناس بشعره المشع بالمعانى الدافئة القادرة على التسلل بسهولة إلى قلوب المحبين. صدرت له عدة دواوين شعرية احتفى بها المؤمنون بالتجديد وذوو البصيرة بالمستقبل. وفى اللحظة التى بدأ فيها فى الانتشار وإثبات نفسه كشاعر مجدد دهمته صدمة جديدة، أحس معها بقمة الغبن من الواقع الذى يعيش فيه.
قامت ثورة يوليو عام 1952، وكان إبراهيم ناجى وقتها يعمل طبيباً فى مستشفى «قلاوون»، التابع لوزارة الأوقاف، بمرتب لا يزيد على 35 جنيهاً، لم يكن الرجل مهتماً بالسياسة قدر ما كان شغوفاً بالأدب والإنسانيات، ويبدو أنه لم يلتفت إلى ما التفت إليه غيره من أطباء ومسئولى المستشفى من ضرورة الاحتفاء بالتحول الذى حدث، ففوجئ ذات يوم بصدور قرار من إحدى لجان التطهير التى شكلتها الثورة بفصله من العمل كطبيب بمستشفى قلاوون.
أثر قرار الفصل كان داهماً على النفسية الرقيقة التى تسكن بين أضلع «ناجى». الغبن فى الشباب محتمل، لكنه فى الكهولة كبير الأثر على النفس، بدأت الحياة تضيق من حول الشاعر، ولم يعد له من مأوى سوى نادى «جرسونات المحال العامة» بالقرب من شارع فؤاد، فكان يأوى إليه كل مساء، يستشرف القاهرة التى ظلمته من أعلى، ويتناول وجبة العشاء زهيدة الثمن والتى يأخذ معدوها فى الاعتبار أنها تقدم إلى جرسونات، ثم يعود بعدها إلى بيته لينام، وظل «ناجى» على هذا الدأب لعدة أشهر حتى رحم الموت نفسه المعذبة بالغبن فى كبرها، فوافاه الأجل ليلة 24 مارس 1953، أى بعد أشهر قليلة من قرار لجنة التطهير بفصله من العمل.
طوت «قاهرة الثورة» ليالى «القاهرة الملكية» ونسى من يعرف إبراهيم ناجى شخصه الشاعر، ولم يأبه من لا يعرفونه بالبداهة لرحيله، حتى استيقظ الجميع فى واحدة من ليالى القاهرة عام 1962 على صوت أم كلثوم وهى تشدو برائعته «الأطلال»، لحظتها تذكرت القلة التى كانت تعرف إبراهيم ناجى موهبته المغبونة، وانبهر من لم يكن له سابق معرفة بشعره، وأخذ يسأل عنه وعن دواوينه، فى حين كان الشاعر الكبير يرقد هادئاً بعد أن رحمه الله من القاهرة القاسية.