بقلم - محمود خليل
من الحكايات الأساسية التى تجدها رائجة وشائعة فى مواعظ «وهب بن منبه» حكاية «العابد» الذى يصارع «الشيطان»، يأتيه إبليس فى صومعته أو محل عبادته، فلا يعجبه أمره، فيتجسد له فى صورة إنسان (امرأة أو رجل)، أو حيوان، ويحاول غوايته والإيقاع به فى شرك المعصية، وينشب صراع ما بين الطرفين، ينتهى دائماً بانتصار العابد الإنسان على الشيطان «المتأنسن أو المتحيون» إذا صح التعبير، ويعقب الانتصار أن يضع الشيطان نفسه فى خدمة الإنسان العابد، ويقدم له نصائح ذهبية، تحميه من شره فى المستقبل.
ينقل «ابن كثير» هذه الحكاية عن وهب بن منبه، وتحكى قصة عابد من السياح (أى ممن يتنقلون من مكان إلى مكان) اجتهد الشيطان فى غوايته بكل الطرق وشتى الحيل، لكنه لم يفلح، فاستسلم له فى النهاية، ولعب معه «لعبة النصيحة»، تجسد له فى صورة امرأة وحاول غوايته فلم يفلح، فما كان له إلا أن حاول إخافته.
يقول «ابن كثير»: «تمثل الشيطان للعابد فى صورة حيّة، وهو يصلى، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه، فلم يلتفت ولم يستأخر، ثم جاءه على صورة رجل، فقال له: أنا صاحبك الذى أخوّفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وقد بدا لى أن أصادقك، ولا آتيك فى صلاتك بعد اليوم، فقال له العابد: لا يوم خوفتنى خفتك، ولا اليوم بى حاجة فى مصادقتك، قال: سلنى عما شئت أخبرك قال: فما عسيت أن أسألك؟ قال: أفلا تسألنى عما أضل به الناس؟ قال: أنت أضلهم، فأخبرنى عن أوثق ما فى نفسك تضل به بنى آدم، قال: ثلاثة أخلاق: الشح والحدة والسكر».
لو أنك تأملت هذه «الحكاية» بعض الشىء، فستجد فيها بداءة تأكيداً على أن المرأة هى الأداة الأهم التى يوظفها الشيطان فى مواجهة المؤمنين المتعبدين، وهى تحمل إشارة إلى أن المرأة مصدر الغواية الأول للرجل، واستعادة للفكرة الشائعة من أن الشيطان استخدم حواء فى غواية آدم وإخراجه من الجنة، وهى فكرة تتناقض مع ما نص عليه القرآن الكريم، حين حمّل كلاً من آدم وحواء تبعة المعصية: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».
ولست أريد أن أتوقف كثيراً أمام مشاهد «الحكاية» التى تحكى صراع الأفعى مع العابد وهو يصلى، وكيف أنها حاصرته وحاولت صرفه عن الصلاة بكل الطرق، وكيف كان العابد ينتصر عليها ويفوز فى كل محاولة، حتى أعيا الشيطان وأرهقه، فاضطر الأخير إلى الاستسلام له، والكشف عن شخصيته الحقيقية، وطلب صداقته.
ووضع نفسه تحت إمرته، فى حين تعامل العابد بأعلى درجات الترفع مع عرض الشيطان، واستجاب له فقط فيما يتعلق بالتعرف على الأخلاق السيئة التى ينفذ منها الشيطان إلى الإنسان، وهى الشح (البخل)، والحدة (الغضب وغلظة الطبع)، والسكر (شرب الخمر). واستجابة العابد للعرض الأخير الذى قدمه الشيطان، بعد رفضه جملة عروض سابقة، تعد حيلة من جانب القاص أو الراوى، يستهدف من خلالها توفير مساحة لتقديم الموعظة.