بقلم - محمود خليل
مع مطلع الألفية الجديدة، كانت آلة التدهور تعمل عملها داخل المجتمع الذى ساده أعضاء نادى «متوسطى الأداء»، استناداً إلى قاعدة من لا يتطور يتدهور.
الأخطر أن تجربة الانفتاح التى تراكمت آثارها عبر النصف الثانى من القرن العشرين بدأت تؤتى ثمارها، فأصبح للتميز معنى مختلف كل الاختلاف عن التميز العلمى أو الأدائى أو خلافهما، بل بات «المال» أصل التميز، وكرس أصحاب المال فرضية أن كل شىء يُشترى، وبلغ السفه بالبعض حد التفكير فى أن «التقدم» يمكن أن يُشترى بالمال، دون وعى بأن التقدم ثقافة وليس مجموعة من النتاجات التى طورتها المجتمعات المتميزة، ولا يعنى امتلاكها عبر الشراء بالمال أن مستهلكها أصبح مثل أصحابها.حالة التدهور تلك، وسيادة معادلة «الإنسان أصله جنيه» -إذا صح التعبير- أدتا إلى صعود حظوظ أعضاء نادى المحدودين الآتين من منطقة «النفوذ المالى»، فظهر فى العديد من المجالات أشخاص محدودو القدرة يفتقرون إلى الحد الأدنى من المهارات المطلوبة للأداء المقبول (المتوسط).
فمعادلة «الأداء المتوسط» بدأت فى التراجع إلى حد كبير بدءاً من العقد الأخير من القرن العشرين، وبات ذلك واضحاً مع مطلع الألفية.
دعنى أضرب لك مثالاً على ذلك من واقعنا الإعلامى.يرتبط مشهد الإعلام المصرى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بالعديد من الأسماء اللامعة لرواد أثروا الحياة الصحفية والفكرية والثقافية فى مصر خلال هذه الفترة.
وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان لدينا أكثر من 20 صحيفة يومية، حين كان تعدادنا السكانى 20 مليون نسمة.
واصل بعض من أعضاء نادى المتميزين الملكى العمل بعد الثورة، واختلفوا فى مواقفهم من السلطة حينذاك، لكن القاسم المشترك الأعظم بينهم تمثل فى ثراء القدرات وتميز الأداء، وإلى جوارهم ظهر بعض أعضاء نادى المتوسطين ممن يملكون القدرة على الأداء المعقول.
وبدأ الأمر يختلف بدءاً من التسعينات، حيث بقى بعض متوسطى القدرة داخل دائرة العمل الإعلامى، لكن عجلة التدهور كانت قد بدأت فى الدوران، واقتحم المجال عدد من محدودى القدرة، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
ما ينطبق على الإعلام ينطبق على مجالات أخرى عديدة، إذا قارنت العاملين فيها حالياً بنظرائهم فى العقود الماضية فسوف تلاحظ وجود فروق هائلة فى القدرات، وأن منحنى الأداء هبط من الدرجة المتوسطة إلى الدرجة المحدودة، وأصبحت السيادة لأعضاء نادى «محدودى القدرات».
أهلية أى مجتمع للتطور ترتبط بتوافر قاعدة معتبرة من المتميزين بداخله، وقدرته على التطور تتعلق فى الأول والآخر باتجاهه نحو تمكين المتميزين من مراكز الأداء، وترجمة الشعار الذى نردده منذ الستينات: «الرجل المناسب فى المكان المناسب» إلى واقع عملى.
ذلك الشعار الذى يقفز من دواليب العقل كلما واجهنا محنة من نوع ما، تسبب فيها الأداء المترهل المحدود، فنظل نردده باللسان دون أن نمكنه فى الواقع.. ونتائج ذلك معلومة بالضرورة ولا تحتاج إلى شرح أو توضيح.